تشهد مالي منذ مطلع جوان الجاري تصعيدا خطيرا في وتيرة الهجمات المسلحة التي تستهدف الجيش المالي، في أعقاب الانسحاب التدريجي لقوات مرتزقة فاغنر الروسية، التي كانت تمثل ركيزة أمنية في العديد من المناطق الساخنة شمال ووسط البلاد.
ففي الثالث من جوان، تعرضت مدينة تمبكتو لهجوم مزدوج ومعقّد شنته جبهة تحرير أزواد أسفر عن مقتل العشرات من الجنود، بينهم عناصر يُعتقد أنهم كانوا يتمركزون في معسكر يضم بقايا من عناصر فاغنر. وأكدت مصادر ميدانية أنّ الهجوم شمل تفجير سيارة مفخخة وقصفا مدفعيا استهدف المطار ونقاط تفتيش محيطة، مما يكشف عن قدر عالٍ من التنسيق والقدرة الهجومية.
كما لم تسلم مناطق أخرى من البلاد من الهجمات، حيث سجلت اشتباكات وهجمات متفرقة في كل من بولكيسي وديورا، مخلّفة خسائر فادحة في صفوف الجيش المالي بقيادة الطغمة الانقلابية ما أثار تساؤلات حول الجاهزية الدفاعية بعد غياب الدعم اللوجستي والتكتيكي الذي كانت توفره وحدات فاغنر.
ويرى محللون أن انسحاب مرتزقة فاغنر خلق فراغا أمنيا، زاد من هشاشة المؤسسة العسكرية، في وقت تُواجه فيه الحكومة الانقلابية ضغوطا داخلية وخارجية متزايدة. كما شكّل هذا الانسحاب تحوّلًا استراتيجيًا في ميزان القوى على الأرض، استغلته جبهة تحرير الأزواد لتكثيف عملياتها في توقيت حرج.
وتزامنت هذه التطورات مع تحرّكات دبلوماسية إقليمية لاحتواء الوضع، أبرزها المساعي الجزائرية الهادفة إلى منع انزلاق الوضع الأمني في الساحل نحو مزيد من الفوضى، من خلال الدفع نحو حل سياسي شامل، يُعيد الاعتبار لاتفاق الجزائر كمرجعية لحل النزاع في الشمال.
انسحاب قوات “فاغنر”: انتصار للدبلوماسية الجزائرية وصفعة في وجه أسيمي غويتا
بدأت مجموعة فاغنر الروسية انسحابها من مالي في خطوة وُصفت بالتحول الجذري في المشهد الأمني للساحل الإفريقي، وذلك عقب تحرك دبلوماسي جزائري فاعل أسفر عن تقليص النفوذ غير النظامي لروسيا في المنطقة، ودفع نحو إعادة التوازن في العلاقات الأمنية بالمنطقة.
وبحسب ما أكدته تقارير إعلامية دولية، فإن قوات فاغنر بدأت انسحابا تدريجيا من التراب المالي بعد تعرضها لخسائر فادحة في المواجهات مع قوات جبهة تحرير أزواد، وقد أعلنت المجموعة عبر قنواتها الخاصة أن “المهمة قد اكتملت، ونستعد للعودة إلى الوطن”، في رسالة توحي بانتهاء دورها شبه العسكري في البلاد.
وربطت مصادر سياسية هذا القرار بتكثيف الحركية الدبلوماسية الجزائرية، التي قادت خلال الأسابيع الماضية مشاورات أمنية هامة على مستوى دول الجوار، ورافعت بقوة ضد الاعتماد على مجموعات مسلحة أجنبية خارجة عن الإطار الرسمي للدول، باعتبارها عاملا مفاقما لعدم الاستقرار.
ويُعد هذا الانسحاب ضربة موجعة للطغمة العسكرية الانقلابية الحاكمة في مالي بزعامة أسيمي غويتا، والتي كانت تعتمد على فاغنر كأداة رئيسية لبسط السيطرة على مناطق النزاع، بعد انسحاب القوات الفرنسية والدولية.
كما يُنظر إلى هذه الخطوة كتحول في موقف موسكو، التي أعادت ترتيب وجودها العسكري في مالي من خلال “فيلق إفريقيا” (Africa Corps)، التابع لوزارة الدفاع الروسية، والذي يتولى مهام التدريب والدعم بدلًا من القتال المباشر.
ويرى مراقبون أن الجزائر، بموقفها المبدئي الرافض للانقلابات والميليشيات، نجحت في فرض منطق الشرعية والسيادة الوطنية ضمن مقاربة شاملة لحلحلة الأزمة في الساحل الإفريقي، خاصة في ظل الانهيار الأمني والتدهور الاقتصادي الذي تعيشه مالي منذ انقلاب 2021.
ويأتي انسحاب فاغنر ليكشف حجم الضغوطات الدولية والإقليمية على السلطات العسكرية المالية الانقلابية، ويعيد بعث النقاش حول مستقبل الشراكات الأمنية في إفريقيا، وضرورة إسناد الملفات العسكرية إلى جيوش نظامية تعمل في إطار القانون الدولي، بعيدا عن ممارسات المرتزقة وتجارة النفوذ.
عبد القادر. ب