حققت الدبلوماسية الجزائرية نجاحات بارزة خلال رئاستها لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في شهر جانفي الفارط، حيث أثبتت حكمتها وقدرتها على الدفاع عن القضايا العادلة، وتعزيز دور إفريقيا في الساحة الدولية، والتصدي للتحديات التي تهدد السلم والأمن العالميين، تنفيذا لتوجيهات رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون.
وبرزت الجزائر كقوة دبلوماسية مؤثرة من خلال طرحها لملفات مصيرية ومبدئية، على رأسها القضية الفلسطينية، حيث قادت جهودًا مكثفة لعقد اجتماعات طارئة داخل مجلس الأمن، دافعة نحو اتخاذ مواقف واضحة لدعم حقوق الشعب الفلسطيني وإدانة الممارسات الاحتلالية، خاصة مع التهديدات بإغلاق وكالة الأونروا. كما شددت على ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار بين حركة “حماس” والاحتلال الصهيوني، والسعي لإطلاق مسار سياسي جاد تحت رعاية الأمم المتحدة يفضي إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.
وامتدت نجاحات الدبلوماسية الجزائرية إلى عدة ملفات إقليمية ودولية، حيث قادت دورًا محوريًا في تسليط الضوء على الأزمات في لبنان وسوريا واليمن وليبيا والسودان، داعية إلى حلول سلمية تعزز الاستقرار وتمنع التدخلات الخارجية. ونجحت في انتزاع قرار تاريخي يسمح للمؤسسة الليبية للاستثمار بإعادة استثمار أصولها المجمدة في المؤسسات المالية الدولية، مما يضمن الحفاظ على قيمتها، بالإضافة إلى فرض إلزام لجنة العقوبات بإبلاغ السلطات الليبية بمستجدات هذه الأصول، ما يتيح لها متابعة أموالها واستعادتها مستقبلاً.
وفي سياق متصل، تواصلت انتصارات الدبلوماسية الجزائرية قارياً وإقليمياً ودولياً، حيث نجحت أيضا، وبمبادرة منها، في إقرار مبدأ المساواة في الاطلاع على وثائق مجلس الأمن لكل أعضائه دون تمييز، بعد مشاورات امتدت لأكثر من ستة أشهر.
و جاءت هذه المبادرة عقب اكتشاف الجزائر أن الأعضاء المنتخبين في مجلس الأمن لم يكن بإمكانهم الوصول إلى جميع الوثائق والأرشيف المرتبط بعمل المجلس، وهو امتياز كان حكراً على الأعضاء الدائمين فقط. ومن منطلق قناعتها بأن هذا التمييز غير قائم على أي أساس قانوني أو تنظيمي، بل هو ممارسة فرضها بعض الأعضاء الدائمين، وضعت الجزائر خطة دقيقة لكشف هذا الخلل وإلغاء هذا التمييز.
وأجرت البعثة الجزائرية في نيويورك مشاورات مكثفة بدأت مع مجموعة “A3+ ” التي أبدت دعمها للمبادرة، ثم توسعت المشاورات إلى جميع الأعضاء المنتخبين، رغم العراقيل التي واجهتها من بعض الأعضاء الدائمين الذين اعتبروا أن وثائق المجلس محمية بشكل حصري، بل واشترطوا موافقة مسبقة للوصول إليها.
وأمام هذا الوضع، واصلت الجزائر جهودها الدبلوماسية عبر مناورات قانونية وإجرائية اتسمت بالحكمة، مدافعة بقوة عن مبادرتها في اجتماعات مغلقة ولقاءات غير رسمية لممثلي أعضاء مجلس الأمن، حتى تمكنت من إدراج القضية في أعمال الفريق العامل غير الرسمي لمجلس الأمن المعني بالوثائق والمسائل الإجرائية الأخرى، الذي تترأسه اليابان.
وبعد أكثر من ستة أشهر من المفاوضات والتخطيط المحكم، نجحت الجزائر في تحقيق هذا الإنجاز، الذي سُمي بـ “المبادرة الجزائرية لتقنين التعامل والاطلاع على وثائق عمل مجلس الأمن“، حيث اعتمد المجلس مذكرة رسمية تعدّل المذكرة 507 لسنة 2017 التي تنظم أشغاله.
وتضمنت الوثيقة الجديدة إقراراً صريحاً بحق جميع أعضاء مجلس الأمن، دون تمييز، في الاطلاع الكامل على الوثائق ذات الصلة بالمسائل المطروحة للدراسة، إلى جانب تحديد دقيق للإجراءات المتعلقة بطلبات الاطلاع على بعض الوثائق. وتم إدراج هذه الفقرات الجديدة ضمن مذكرة الرئيس رقم S/2024/507، مما يمثل انتصارًا نوعيًا يعزز الشفافية داخل مجلس الأمن، ويكرّس مبدأ المساواة بين جميع أعضائه.
ولم يقتصر الدور الجزائري على الملفات السياسية فقط، بل امتد إلى تعزيز الأمن في القارة الإفريقية، حيث نظمت الجزائر اجتماعًا رفيع المستوى حول مكافحة الإرهاب، محذرة من تصاعد الظاهرة في إفريقيا، حيث قدّم وزير الشؤون الخارجية أحمد عطاف، بتكليف من رئيس الجمهورية، رؤية الجزائر حول ضرورة مواجهة الإرهاب من جذوره، إلى جانب معالجة تداعياته الأمنية.
وقد لقيت هذه الجهود إشادة دولية واسعة، حيث عبّر مفوض الشؤون السياسية والسلم والأمن في الاتحاد الإفريقي بانكولي أديوي عن تقديره لعبد المجيد تبون على دعمه المتواصل للجهود القارية في هذا المجال.
وفي إنجاز دبلوماسي جديد، تبنى مجلس الأمن بيانًا رئاسيًا بمبادرة جزائرية، يكرس الاعتراف على أعلى مستوى دولي بالبنية المؤسسية لمكافحة الإرهاب في إفريقيا، وذلك تتويجًا للنقاش الذي عقد يوم 21 جانفي برئاسة وزير الخارجية أحمد عطاف. كما يعترف البيان بدور نصير الاتحاد الإفريقي للوقاية من الإرهاب ومكافحته، وهي المسؤولية التي أسندها القادة الأفارقة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، تأكيدًا على الثقة في الريادة الجزائرية.
ونجحت الجزائر أيضًا من فرض مقاربة جديدة داخل مجلس الأمن، من خلال الاعتراف الرسمي لأول مرة بالدور المحوري لآليات مكافحة الإرهاب الإفريقية، بما في ذلك لجنة أجهزة المخابرات والأمن الإفريقية (CISSA)، ووحدة مكافحة الإرهاب التابعة للقوة الإفريقية الجاهزة، ووكالة الشرطة الإفريقية (AFRIPOL)، مما يعزز موقع القارة الإفريقية في التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب.
وخلال مناقشات 21 جانفي، شدد أحمد عطاف على أن النهج الحالي لمكافحة الإرهاب في إفريقيا غير مستدام، داعيًا إلى استراتيجية جديدة توازن بين الأمن والتنمية، وتعتمد على قيادة إفريقية قوية مدعومة بشراكات دولية فعالة، حيث لقيت هذه الرؤية الجزائرية تأييدًا واسعًا، مما يعكس مرة أخرى الثقل الدبلوماسي الذي تتمتع به الجزائر في القضايا الأمنية والاستراتيجية.
عبد القادر. ب