التخبط الفرنسي المتزايد هذه الأيام والذي ترجمته تصريحات إيمانويل ماكرون يوم أمس خلال الاجتماع السنوي لسفراء بلاده بمهاجمة الدول الإفريقية جد مفهوم ومتوقع بحكم الهزائم والخسائر التي منيت بها فرنسا خلال السنوات الأخيرة، فإفريقيا لم تعد منطقة نفوذ سياسي واقتصادي وثقافي فرنسي مثلما كانت، بل صارت تشكل محورا أساسيا في تشكيل موازين القوى العالمية، موازاة مع تصاعد الوعي الوطني في البلدان الإفريقية بضرورة إنهاء الوصاية الفرنسية بالقارة السمراء.
ولا يزال الأفارقة إلى اليوم يتذكرون مرحلة جد قاسية من الاستدمار الفرنسي الذي تفنن في استعباد الشعوب الإفريقية واستغل مواردها الطبيعية لسنين طويلة، ولم تعد الاستراتيجية الفرنسية الجديدة عقب استقلال هذه الدول الإفريقية قابلة للتنفيذ، من خلال اعتماد سياسات “الاستعمار الجديد “، التي اصطدمت بوعي وطني أوقف التدخلات الاقتصادية والعسكرية وحتى التأثير الثقافي لقصر الإليزيه في هذه الدول.
الجزائر الجديدة .. استقلالية للقرار السياسي والاقتصادي ورفض للتدخلات الفرنسية
تلقت فرنسا الاستدمارية صفعات متتالية منذ تولي عبد المجيد تبون مقاليد رئاسة الجمهورية، فالجزائر الجديدة فرضت بشدة استقلالية قرارها الوطني بما في ذلك السياسي والاقتصادي أمام كل الضغوط الفرنسية، التي فشلت في فرض وصاية امتدت لسنين وانتهت مع رئاسيات 2019.
وشدّد الرئيس عبد المجيد تبون أكثر من مرة على قرار الجزائر السيد، إذ أكد في رسالة وجهها بمناسبة إحياء الذكرى الـ 62 لعيد النصر، حيث قال “عاقدون العزم على المضي في الجزائر الجديدة إلى الغايات التي حدّدتها رسالة نوفمبر الخالدة تعزيزاً للسيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني”.
وقال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في رسالة بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثانية والستين (62) لعيد الاستقـلال (5 جويلية 1962-2024) ” “إن الجزائر اليوم التي لا تفتأ تذكر بالمرجعية النوفمبرية وتقدر رمزية الاستقلال وعمق ذكراه، هي في الوقت نفسه ماضية بلا تردد في مسار الأخذ من هذا النبع الصافي ضابطة كل خياراتها وقراراتها ومواقفها ومشاريعها وفق ما خطته ثورة نوفمبر الخالدة وما أفضت إليه من استقلال شهد العالم بأسره أنه افتك افتكاكا وقدمت على قربانه أغلى الأثمان.”
وأوضح الرئيس عبد المجيد تبون في هذه الرسالة أن الجزائر انتصرت، بالقول “لم يكن خافيا أن المرحلة التي قطعناها كانت محفوفة بالتحديات سواء ما تعلق بمعالجة الملفات الداخلية أو وضعية المقام الذي يليق بصورة الجزائر في الخارج، ولكن صدق النوايا وعزيمة الرجال واستشعار شرف المهمة، كان دوما يبشر بالانتصار رغم حدة العوائق. نعم، لقد انتصرت الجزائر، انتصرت وهي تسترد إلى حضن أبنائها وشرف اسمها وهرم مقامها، انتصرت الجزائر في إعادة الثقة بغد أفضل، انتصرت في إعادة تماسك اللحمة الوطنية، انتصرت في إحياء الأمل، انتصرت في الإنعاش الاقتصادي، انتصرت في النهوض بالطبقات الهشة واكتساب ثقة الشابات والشبان، انتصرت في رسم الصورة التي تليق بالجزائر على المستويين الإقليمي والدولي، انتصرت بصوتها المرفوع ومكانتها المحفوظة في المحافل الدولية، انتصرت وهي تهز ضمير العالم في قضية الراهن الإنساني مأساة فلسطين الشقيقة.”
وأردف في رسالته” لقد حققت الانتصار تلو الآخر على كل صعيد خاضته، وسيتحقق الأجزل والأوفر و الأثمن في قابل المراحل إن شاء الله.”
المخططات الفرنسية تفشل في استهداف استقرار الجزائر
فشلت الضغوط الفرنسية في التأثير على القرار الوطني للجزائر منذ تنصيب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، وأمام هذا الوضع انتقلت فرنسا الاستعمارية إلى ممارسة خططها القذرة في استهداف أمن الجزائر واستقرارها، حيث استدعت وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية شهر ديسمبر الفارط سفير فرنسا ستيفان روماتيه، وأبلغته رفض الجزائر القاطع لما اعتبرته محاولات متكررة لاستهداف سيادتها.
وجاء استدعاء السفير الفرنسي وفق ما نقلته جريدة المجاهد في حينها ” في أعقاب ثبوت المشاركة المباشرة لأجهزة الاستخبارات الفرنسية وضلوعها في مخططات تهدف إلى زعزعة استقرار الجزائر.”
وشدّدت الجزائر على أن “الأفعال الاستفزازية الفرنسية لن تمر دون رد مناسب”.، ليبث التلفزيون بعدها بأيام وبالأدلة والاسماء وثائقيا حول تورط المخابرات الفرنسية في محاولة لتجنيد جزائريين بالداخل للقيام بعمليات إرهابية عن طريق استدراج الشاب محمد أمين عيساوي، وهو المخطط الذي أحبطته مصالح الأمن الجزائرية بحرفية عالية.
وأمام هذه الفضائح المدوية لمسؤولي قصر الإليزيه، تواصلت الخطط الفاشلة تارة بالدفاع عن حرية التعبير بإقحام اسم بوعلام صنصال، وأخرى باتهامات وصفها المتتبعون بـ ” السخيفة ” للجزائر باستهداف استقرار باريس.
وفي سياق متصل، فضح رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في خطابه للأمة الخطط الفرنسية، مجددا حرصه على “صون الذاكرة الوطنية، والحفاظ على كرامة الآباء والأجداد المجاهدين، والشهداء الذين ضحّوا في المقاومة الشعبية والثورة التحريرية المجيدة”.
وذكر الرئيس ” من يقول تركنا الجزائر جنة، ليعلم أنه غداة الاستقلال 90 % من الشعب الجزائري كان أمّيا .”، مضيفا أن “الجنرال “بوجو” أباد الجزائريين..”
وقال رئيس الجمهورية وبشكل صريح وواضح أن “الاستعمار ترك الخراب في الجزائر، ونحن أصحاب حق لن يسقط.. وعليهم الاعتراف بتقتيل وذبح الجزائريين “.
وتابع في خطابه ” يدّعون الحضارة وفي الوقت نفسه يفتخرون بسلب جماجم على أنها غنائم .
نطالب بتنظيف النفايات النووية بمواقع تجاربها في صحرائنا.”
وكشف الرئيس عبد المجيد تبون لدى تطرقه لقضية الصحراء الغربية أن “فكرة الحكم الذاتي فكرة فرنسية وليست مغربية ونحن على علم بذلك منذ عقود. ”
وقد أكد خطاب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون من جديد استقلال الجزائر في قرارها الوطني ومواقفها وأن علاقاتها مع فرنسا تحكمها الندية والمصالح المتبادلة، ليختصر الرئيس العلاقات الراهنة بتصريح خلال لقاء تلفزيوني سابق “لن أذهب إلى كانوسا” وهو التصريح الذي وضع فيه النقاط على الحروف.
مشاعر العداء الشعبي بالقارة السمراء تتصاعد ضد فرنسا
يقرّ المتتبعون بفشل فرنسا في تحقيق الاستقرار بدول الساحل الإفريقي وهي التي قررت التدخل عسكريا بحجة مكافحة الإرهاب، وبدلاً من ذلك، فقد أدت هذه التدخلات إلى تصاعد مشاعر العداء الشعبي ضد فرنسا، الأمر الذي أدى إلى احتجاجات شعبية عارمة طالبت بإنهاء التواجد العسكري في هذه الدول.
وعرفت العديد من الدول الإفريقية تحركات شعبية تهدف إلى وضع حد للنفوذ الفرنسي، مثلما وقع من احتجاجات جماهيرية عارمة بكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، حيث تم اتهام باريس باستغلال مكافحة الإرهاب كذريعة لحماية مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية ونهب ثرواتها، حيث أجبرت القوات الفرنسية الغازية على الانسحاب.
وتعكس تصريحات رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو مؤخرا ردا على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحولا جديدا في التعامل بندية مع العربدة الفرنسية، حيث أكد في بيان أنه “لولا مساهمة الجنود الأفارقة في الحرب العالمية الثانية في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي لربما كانت فرنسا اليوم لا تزال ألمانية”.
وانتقد رئيس الوزراء السنغالي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسبب تهمة “الجحود التي وجهها سيد الإليزيه لقادة هذه الدول الإفريقية”.
وذكر عثمان سونكو إن “فرنسا لا تمتلك لا القدرة ولا الشرعية لضمان أمن إفريقيا وسيادتها بل على العكس من ذلك، فقد ساهمت في كثير من الأحيان في زعزعة استقرار بعض الدول الإفريقية مثل ليبيا، مما أدى إلى عواقب وخيمة لوحظت على استقرار وأمن منطقة الساحل”.
ومن جهته، أعرب وزير الخارجية التشادي عبد الرحمن كلام الله عن قلق بلاده ” العميق عقب تصريحات ماكرون التي تعكس موقف ازدراء تجاه إفريقيا والأفارقة” . مضيفا في بيان بثه التلفزيون الرسمي أنه “ليست لديه أي مشكلة مع فرنسا، لكن بالمقابل يجب على القادة الفرنسيين أن يتعلموا احترام الشعب الإفريقي”.
وتسير القارة الإفريقية اليوم بخطى ثابتة نحو تعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي، معتمدة على وعي شعوبها وإرادة قادتها، في عالم متعدد الأقطاب، صارت القارة السمراء تطمح إلى موقع لها فيه، في رسالة واضحة لفرنسا تؤكد ان قرارات ومصير إفريقيا تحدده مصالح شعوبها.
عبد القادر. ب