تحتفظ ذاكرة الموريتانيين للجزائر الشقيقة بالكثير من المواقف المشرفة، فبلاد المليون ونصف المليون شهيد كانت العون والسند للشعب الموريتاني حين كان في أمس الحاجة إلي أشقائه وجيرانه.
ورغم استقلال موريتانيا عامين قبل استقلال الجزائر إلا أن ذلك لم يمنع الجزائر في عهد الزعيم الراحل هواري بومدين من تحمل مسؤولياتها تجاه الشعب الموريتاني الذي كان يتربص به جيرانه الشماليون في تلك الفترة. وبما أن الرجال مواقف، فقد أحس عظماء الجزائر الخارجين لتوهم من حرب استنزاف طويلة مع المستعمر الفرنسي أن مصير موريتانيا مرهون بوقوفهم معها في هذا الوقت العصيب.
فسخرت الجزائر كل جهودها وطاقاتها لهذا البلد الناشئ وعمدت في سبيل النهوض به إلى وضع اللمسات الأولي لأنظمته الإدارية والتعليمية والقضائية والاقتصادية وحتى الصحية.
وهنا استشهد بمقتطفات من مذكرات الرئيس الراحل المختار ولد داداه ففي الفصل الـ 16 من المذكرات المعنون ” نحن والجزائر “، يقول الرئيس ولد داداه ” إن العلاقات الموريتانية الجزائرية تطورت تطورا كبيرا بعد زيارتي للجزائر عام 1967 حيث نشط التنسيق الديبلوماسي بين البلدين على جميع المستويات الخارجية.”
وعلى الصعيد الداخلي يقول الرئيس ولد داداه”..تطور التعاون الموريتاني الجزائري بنشوة وحماس حتى سنة 1967 (…) بل إن الجزائر أعانتنا كثيرا”.
ثم يتابع الرئيس ” ما بين 1967 و1975 كونت الجزائر الكثير من الأطر العليا والمتوسطة المدنية والعسكرية وهذا ما يفسر أن أكبر جالية طلابية عندنا في الخارج كانت في الجزائر (..) وكانوا كلهم تقريبا ممنوحين من طرف الحكومة الجزائرية..وعلى الرغم من أن الجزائر كانت تعاني نقصا في الأساتذة والأطباء فإن ذلك لم يمنعها من إيثارنا ببعضهم فضلا عن البعثات الفنية وبعثات المساعدة الدائمة”.
ويضيف الرئيس “ما كان لإنشاء العملة الوطنية والبنك المركزي ،في 1973م، أن يتحققا في الظروف الجيدة التي تما فيها لولا العون النفيس الذي قدمته لنا السلطات المصرفية الجزائرية ..وفي هذا المجال أثبتت السلطات الجزائرية كثيرا من التضامن والاستعداد والنجاعة”.
وللجزائر الفضل في انتماء موريتانيا للجامعة العربية، حيث يقول الرئيس الراحل ” فيما يتعلق بانتماء موريتانيا للجامعة العربية نذكر للأمانة التاريخية ، أن السيد بومدين قام بالكثير من الجهود ليتم هذا الانتساب في أكثر الظروف علنية، حيث حرص الرئيس بومدين خلال رئاسته للقمة العربية على الإعلان عن تبنى هذه العضوية في قمة الجزائر بدل أن تقبل هذه العضوية على مستوى أخفض أي على مستوى وزراء الخارجية وفقا للعادة المتبعة”.
وبخصوص تأميم مناجم الحديد ” ميفرما ” الذي كان أكبر قرار سيادي تتخذها موريتانيا بعد الاستقلال يذكر الرئيس المختار ولد داداه في مذكراته أن الزعيم الجزائري هواري بومدين كان أول المطلعين على قرار التأميم، حيث قدم له نصائح بالتروي خوفا من ردة الفعل الفرنسية.
وقال ” إن الفرنسيين قادرون على القيام بأي شيء بما في ذلك الإطاحة بالنظام الوليد، إذا ما مست مصالحهم، مؤكدا أن الجزائر تضع كافة إمكانياتها تحت تصرف موريتانيا فيما إذا تعرضت لمضايقات فرنسية”. ولم يستبعد المختار ولد داداه احتلال فرنسا لمدينتي ازويرات ونواذيبو وعلى الفور أكد له الرئيس بومدين أنه سيتخذ ما يلزم من الإجراءات الضرورية.
وعندها تم الاتفاق على وضع وحدات من الجيش الجزائري في حالة تأهب يوم الإعلان عن قرار التأميم في الثامن والعشرين نوفمبر 1974م، وهي جاهزة للتدخل عند أول نداء للرئيس المختار ولد داداه.
وكان من المقرر أيضا أن يكون الرئيس بومدين موجودا في مدينة تندوف للإشراف المباشر على الأمور لكن لم يحدث في النهاية أي شيء؛ وقد علق الرئيس ولد داداه على هذا الموقف قائلا ” لقد أبدت الجزائر استعدادا كبيرا ورغبة خالصة في مؤازرة موريتانيا ومساعدتها في وقت من أحرج الأوقات في نضالها من أجل التحرر، وكنا مدينين لها بذلك”. انتهي الاستشهاد.
كانت تلك مواقف لا تنسى للحكومة الجزائرية يسردها مؤسس الدولة الموريتانية الراحل المختار ولد داداه ولي مع شعب الجزائر ذكريات جميلة اسرد بعضا منها علي عجالة.
تعرفت علي الجزائريين عن قرب عام 2003 حين وصلت إلي مدينة عنابة لمزوالة دراستي الجامعية، وأثناء تلك الفترة التي استمرت لسنوات زرت أكثر من عشر ولايات جزائرية، وشيئا فشيئا بدأت أتعرف علي الشعب الجزائري الغني بثقافاته وتقاليده، حيث تلمست فيه سخاء منقطع النظير وأنفة نفس لم أجدها عند غيره من الشعوب العربية.
ورغم سرعة الغضب التي تذكر عن الجزائريين إلا أن من خالطهم يدرك أن تلك الصفة هي مجرد رفض للظلم وهي جينة تجري في دم كل جزائري أصيل .
مقتطف من مقال كتبته سابقا عن العلاقات الموريتانية الجزائرية، تحت عنوان (هكذا عرفت الجزائر)، أعيد نشره بمناسبة وصول الهدية الجزائرية لموريتانيا.
بقلم : سيد محمد ولد خليفة