لم يعد عالم الدبلوماسية مقصورا على العلاقات السياسية بين الدول، وبهذا لم يعد التحرك الخارجي لأجل الحيلولة دون اشتعال فتيل الحرب أو لأجل إدارة الأزمات أو النزاعات الحدودية والإقليمية والدولية، إنما أضحى متصلا بأبعاد أخرى تتداخل مع البعد السياسي تؤثر فيه وتتأثر به.
ولما باتت قوة الدول تقاس بقوة اقتصادها دعت الضرورة إلى الاهتمام بالمستوى الاقتصادي للدولة، واحتدام التنافس الاقتصادي بين الدول ثم بين الدول والمؤسسات الكبرى (كالشركات المتعددة الجنسيات…)، كان لزاما أن تتدخل الدبلوماسية حتى لا يتحول التنافس إلى صراع وقد يتطور إلى حروب دامية، فالحروب لم يكن سببها الرئيس سياسيا في الغالب، بل حول موارد طبيعية إنه تأمين ضد الجوع والفقر مقابل رغبة في الرفاه. يشكل تداخل الاقتصاد والسياسة عالمان متصلان ومتكاملان.
والتحولات الناجمة عن العولمة بكل ما تحمله من معاني جعلت العالم في عالم متحول بشكل سريع ومستمر، يجعل المجالات الإنسانية والنظريات التي قامت عليها العلوم لاسيما الاجتماعية قاصرة حتى لا نقول عاجزة، والعقل الإنساني المفعم بالذكاء والإبداع يعمل باستمرار على العطاء والإنتاج مجاراة للتطورات الحاصلة في عالمنا المعاصر لاسيما في مجالات التكنولوجيا التي جعلتنا نعيش عصرا مختلفا عن العصور الأخرى.
العلاقات الدولية من العلوم التي تأثرت بالتحولات، فأبدع المهتمون بها والمفكرون في حقولها بتنويع أشكال تعاملاتها وفي أدوات تنفيذ أهدافها، وعلى رأسها الدبلوماسية التي اتخذت أشكالا وأنماطا متنوعة حتى تؤدي وظائفها على أكمل وجه، فعرف العالم الدبلوماسية الرقمية بعد الطفرة التكنولوجية الهائلة في مجالات الاعلام والاتصالات خاصة، واللجوء الواسع إليها تحديدا بعد تأزم الوضع الصحي العالمي من خلال الوباء المنتشر كورونا(كوفيد 19)، كما عرف العالم المعاصر الدبلوماسية الشعبية (العامة) المعتمدة على تشكيل الرأي العام الجماهيري للتأثير على سياسات الدول الأخرى أو لكسب تأييد الشعوب لقضية معينة في اطار تحقيق المصلحة القومية، إضافة إلى الدبلوماسية البرلمانية في طريقة لتفعيل السياسة الخارجية من خلال الإرادتين الرسمية والشعبية معا تحت أطر مختلفة أشهرها لجان الصداقة البرلمانية، إلى جانب ما أطلق عليه بالدبلوماسية الإنسانية في حال الأزمات والحروب على سبيل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية وحماية المدينين العزل. وعرف العالم المعاصر أيضا الدبلوماسية الاقتصادية التي نخصص لها مقالنا.
مفهوم الدبلوماسية الاقتصادية وأصل التسمية:
الدبلوماسية عامة تعني علم تمثيل السلطات ومصالح البلاد لدى الدول الأجنبية، بالعمل على احترام حقوق وهيبة الدولة، وتسيير الشؤون الخارجية من خلال تعزيز العلاقات بين الدول كسبا للتأييد بالوسائل السلمية خاصة عن طريق المفاوضات توفيقا بين مصالح الدول، ويمثلها سفراء بمثابة عمداء للسلك الدبلوماسي، يعتمدون في تعاملاتهم على قواعد القانون الدولي والأعراف الدولية، وعلى ذكائهم في التعامل ما يمثل الجانب الفني الإبداعي في الدبلوماسية وهي بذاك تجمع بين العلم والفن.
اقتضت التحولات الدولية تغييرات على مستوى العلاقات الدولية فلم تعد تكتف الدولة باستخدامها لمقدراتها العسكرية كطريقة للتهديد أو كسب التأييد خدمة لتطويق أمنها القومي، لاسيما بعد الحرب العالمية والتخوف العالمي من المواجهة النووية المدمرة للبشرية، فكان لزاما إيجاد صيغة أخرى، ولما عرفت قيمة البعد الاقتصادي في قدرته على التأثير راحت للعمل في التمهيد لرسم طريق شكّل نوعا جديدا من الدبلوماسية أطلق عليه لاحقا بالدبلوماسية الاقتصادية.
كانت إرهاصات الانطلاقة مع الولايات المتحدة في بدايات القرن العشرين لما انتهجت سبيل “دبلوماسية الدولار” تعزيزا لمصالحها التجارية في الخارج من خلال تشجيع استثمارات رأس المال الأمريكي في الخارج لاسيما داخل أمريكا اللاتينية وبفرض احتكار الدولار، وإن كانت انطلاقة غير مشرٍفة لكن تبقى من الإرهاصات التي يجب التنويه إليها.
ة شهدت الدبلوماسية في العصور الغابرة نوعا من الدبلوماسية الاقتصادية ولو بصورة أخرى غير الحالية، كأن تستخدم التجارة في سبيل تحقيق بعد سياسي كالتوغل الجيوسياسي كما حصل في انتشار النفوذ البابلي والآشوري في الشام والأناضول عبر تعزيز العلاقات التجارية بينهم.
اتساع وتنوع المجتمع الدولي المعاصر أدخل اعتبارات جديدة على عالم العلاقات الدولية وبالتالي على الدبلوماسية المتفرعة عنه، فلم يعد يعتمد على العلاقات والتفاعلات بين الدول وحدها، وإنما أضحت المنظمات الإقليمية والدولية هي الأخرى شريكا يحسب له ألف حساب، فتنوعت مسارات التفاعل الدبلوماسي بين الفاعلين في العلاقات الدولية تباعا (دول، منظمات وهيئات إقليمية وأخرى دولية حكومية وغير حكومية، شركات عابرة للقوميات أو المتعدد الجنسيات…) وتوّسعت حدود المشاركة الدبلوماسية وتفرّعت الأبعاد (السياسية والاقتصادية…) في بدايات القرن الجديد (21) وأضحى ممثلو الدول في القنصليات والدبلوماسيات ووزارات الخارجية وحدهم غير كافون لأن العلاقات الدولية اشتملت اليوم على عديد الكيانات قد تعتمد على فئات وقد تنحصر إلى فرد واحد ( من المشاهير مثلا).
لقد أصبح للبعد الاقتصادي دورا معتبرا في إنشاء العلاقات الدبلوماسية بين الدول، ودخل الاقتصاد من الباب الواسع في أجندة أولويات وزارات الشؤون الخارجية.
ولو أردنا تعريف الدبلوماسية الاقتصادية من باب المقارنة بالدبلوماسية التقليدية/ الرسمية، فإننا نجد أنهما يلتقيان في الأهداف فهما أداة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية وبالتالي تحقيق المصالح القومية للدولة، ففي النمطين هي تشكل دبلوماسية وقائية حمائية للمصالح القومية.
لكن الاختلاف هو في الوسيلة المعتمدة “القدرات الاقتصادية للدولة” في تأثيرها على الدول الأخرى وتوجيه مواقفها السياسية حسب مصالحها هي وسيلة الدبلوماسية الاقتصادية.
ولا يمكن بأي حال إهمال دور الدبلوماسية التقليدية لأن قنوات اتصالها وركائزها هي أساس النمط الدبلوماسي المعاصر (الدبلوماسية الاقتصادية) ما ينجم عنه علاقة ترابطية وتكاملية بين الاثنين. وكلاهما يقوم على طرق التأثير المزدوجة “ترغيب” و”ترهيب”، فالدبلوماسية الاقتصادية تعتمد أوجه في تعاملاتها إما استخدام المورد والإمكانية الاقتصادية لأجل مد يد العون (مساعدات مادية، فنية…) لدولة ما أو استخدام الحضر والحصار الاقتصادي Embargo لدولة معينة أو اعتماد أسلوب المقاطعة (مقاطعة سلع دولة معينة أو مؤسسة) أو تجميد أرصدة دولة أو مؤسسة ما حتى تجعلها تخضع لمطالبها المصلحية.
وكلاهما يعتمد سياسة التعامل مع الفواعل المختلفة في السرح الدولي (دول، منظمات…)، وقد أبدت الدبلوماسية الاقتصادية باعا كبيرا في المفاوضات مع المنظمات المالية (كمفاوضات اعادة جدول الديون بين الدولة وصندوق النقد الدولي).
وبما أن الجانب الايجابي في نمط الدبلوماسية الاقتصادية يتمثل في دعم الاقتصادات الوطنية من خلال البحث عن أسواق لبيع السلع واستثمارات رؤوس الأموال في دول أجنبية مختلفة من خلال تشجيع رجالات الأعمال والمؤسسات العامة والخاصة على الاستثمار والنشاط في الخارج، فقد أخذت الدول في انتهاجه دون هوادة.
الجزائر تتطلع لدبلوماسية اقتصادية فعالة:
مادامت القوة تستند على المعيار الاقتصادي، وفي مقدمة تحقيق الأمن البشري تحقيق الأمن الاقتصادي الذي يشمل الأمن الغذائي والصحي والاجتماعي (من عدة أبواب منها التأمين الاجتماعي، ومحاربة الفقر والقهر الاجتماعيين)، فإنه لابد من التطلع للتنمية الاقتصادية قصدا منها تحقيق أمن اقتصادي مستدام وذلك من خلال استراتيجيات عديدة، عبر اعتماد الجهاز الدبلوماسي على احداها في إطار التنافس الاقتصادي الدولي والإقليمي.
وقد اعتمدت الجزائر على نمط الدبلوماسية الاقتصادية منذ زمن، من خلال سلسلة من الاتفاقيات الجزائرية مع دول ومع هيئات دولية لأجل ترقية الاستثمار الأجنبي في البلاد وترقية الاستثمارات الجزائرية في الخارج، لكنها أخفقت في جوانب كثيرة منها عدم القدرة في رفع حجم المبادلات (الصادرات) للأسواق الأجنبية، بدليل إغراق السوق الجزائرية بالسلع الآسياوية والأوروبية لعدة اعتبارات منها تقديم أهمية الدبلوماسية التقليدية على حساب الاقتصادية والاهتمام بما هو سياسي وأمني على حساب ما هو اقتصادي ـ تجاري.
عمدت وزارة الخارجية الجزائرية (فبراير2021) على المبادرة في تدعيم المجال الاقتصادي بشدة وجدية، مؤكدة على تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية و متخذة لذلك تدابير عديدة تحقيقا للمساعي الآتية:
ـــ استقطاب الاستثمارات الأجنبية (شركات، رجال أعمال) في مختلف المجالات ومن خلالها استحداث وظائف في الجزائر لامتصاص البطالة، والاستقطاب لا يقتصر على الأجنبي بل حتى للجزائريين المقيمين في الخارج للاستثمار في بلادهم. وبذلك نوهت وزارة الخارجية على ضرورة إنشاء مكتب إعلامي بوزارة الشؤون الخارجية للتكفل باستقبال المتعاملين الجزائريين لتسهيل عملياتهم وتزويدهم بالمعلومات المفيدة.
ــ البحث عن أسواق للمنتوج الجزائري والتعريف به، فعلى ممثلي السلك الدبلوماسي في الخارج معرفة المنتوجات الجزائرية وكيفيات الترويج لها حتى يتمكنون من استقطاب المستثمرين أجانب كانوا أم جزائريين. وبهذا تصبح من مهمات وزارة الخارجية على المستوى الإدارة المركزية أو على مستوى السفارات والقنصليات الترويج للمصالح الاقتصادية، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا من خلال عملية التنسيق المحكم مع وزارات أخرى.
ــ مزيد من الترويج للتعلم والتكوين في الجزائر خاصة بالنسبة للأفارقة من خلال برامج المنح الدراسية ــ وإن كانت مفتوحة لهم منذ زمن من الباب الواسع ــ.
و تحتاج عملية الترويج المذكورة أعلاه الى سلسلة من التدابير وجب على الوزارة المعنية أن تتخذها وفي أقصى سرعة ترتب لها، نذكر منها الآتي:
ـــ إنشاء بوابة الاقتصادية للدبلوماسية على موقع وزارة الخارجية في اطار الاستقطاب وفي اطار المرافقة الدبلوماسية للمتعاملين الاقتصاديين.
ــ برنامج تكويني مخطط له بإحكام حول الدبلوماسية الاقتصادية للدبلوماسيين من السفراء إلى القناصلة وكامل أعضاء السلك الدبلوماسي ليتعرف كل على مهامه وفائدة ما هو مكلف به حتى يزيد حماسه (من باب الواجب الوطني). وعلى أن يكون التكوين في الآجال القريبة باعتماد التكوين الرقمي (E – Formation)، إلى حين تعميمه في البرامج التحضيرية للمعهد الدبلوماسي وإن كانت بكل تأكيد موجودة إلا أن الحاجة لتعميقها تبقى ضرورة ملحة، حتى يتمكن ممثلو السفارات والقنصليات من إعداد تقارير عميقة حول متطلبات السوق في الدول التي يعملون بها، والإحاطة بجوانب مختلفة في المجال المالي والتجاري والتشريعي أيضا حتى تسهل عملية الاستقطاب والتفاوض بعدها، وفي مرافقة المتعاملين الاقتصاديين في توفير المعلومات اللازمة والممكنة. وعلى الأرجح في بدايات العمل الدبلوماسي بالنمط الاقتصادي الاستعانة بخبراء وخريجي معاهد وجامعات العلوم الاقتصادية والتجارية وإلحاقهم بالعمل الدبلوماسي في اقرب الآجال.
ـ اهتمام ممثلي الدبلوماسية الجزائرية بتنظيم معارض للمنتوج الوطني، وعلى هامشها ندوات إعلامية تبين القدرات الانتاجية الجزائرية وفرص الاستثمار في الجزائر.
وفي هذا الإطار، لا يمكن لوزارة الخارجية وحدها أخذ زمام المبادرة وحدها لأنها في الحقيقة مبادرة ثقيلة وصعبة تحتاج إلى جهود وزارات أخرى على رأسها وزارة النقل لترويج المنتجات الجزائرية، واستقطاب المتعاملين الاقتصاديين، ووزارة الصناعة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ووزارة الفلاحة والموارد المائية، ووزارة الشغل، والتعليم العالي والبحث العلمي، والصحة، والثقافة، والحاجة إلى نظام مصرفي مرن في ظل تنامي العولمة المالية وتطورات الصيرفة العالمية.
وختاما نتوقع رفع سقف التعاملات والمبادلات التجارية والاستثمارية الجزائرية (استثمار قطاعها الخاص أم العام في مجالات مختلفة) مع دول الجوار الإقليمي لاسيما الإفريقي عوض التركيز على الأوروبي والأميركي والآسيوي… فالولوج إلى الأسواق الإقليمية أكثر نجاحا من دخول الأسواق العالمية لاسيما بالنسبة للدول النامية تعبيدا لطريق المنافسة في اطار الدبلوماسية الإقتصادية الإقليمية (في اطار التخصص العميق للنمط الدبلوماسي الاقتصادي).
بقلم : أ. د نبيلة بن يوسف