يتحدث كثير من أهل الجلفة عن منطقتهم وعن سكانها بلهجة الساخط على أحسن ما فيها وما فيهم، أي على خلق توقير، بل وتفضيل كل وافد عليهم حتى على أنفسهم والأقربين.
المنصف منهم لا يحاسب نفسه وغيره على الإفراط في المحبة والتقدير، بل يلوم على ما يقابل ذلك في معاملتهم لبعضهم من تحقير ومن أذية مذمومة، والصحيح أن تحقير الأقارب ليس سلوكا سويا، بل هو من جنس تقليد الغالب، أي أنه قرينة من قرائن عدم الثقة بالنفس، والولع بالغريب في كل أحواله كما ذهب إليه ابن خلدون، ومن هنا منشأ الثقة بالآخر التي تحيلها المبالغة والإفراط إلى ثقة زائفة ربما كانت أقرب إلى الذوبان والتلاشي.
في هذا الشأن يخالف أهل الجلفة طبائع غيرهم من الجزائريين، فهل كان هذا حالهم على مدى القرون الثمانية التي جمعت اجتماعهم الراهن بهذه الأرض؟ الجواب هو قطعا لا فثقافة التسامح مع الآخر إلى درجة اقتسام الرزق والمعاش معه وحتى الانتماء والنسب لمجرد المصاهرة أو المعايشة والجوار هي ثقافة دينية ذات جذور صوفية زرعها الآباء الأشراف المؤسسون الذين استوطنوا المنطقة في عصر ما بعد الموحدين.
فلماذا لا يرضى اليوم سكان الجلفة عن سلوكهم وسلوك أجدادهم الراقي؟ هل لأن ضيوفهم لم يقابلوا كرم ضيافتهم بمستوى من الفهم يكافئ قيمة تلك الضيافة؟ فأقنعوا بعض مستضيفيهم أو معظمهم بالتشكك في صحة الا ستضافة من المبدأ ؟ أم أن كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يقول المثل؟ وأن على الإنسان أن يقتصد في كل ما يأتي وكل ما يترك؟ أم كان في اتهامهم ظلما بالرشوة دون غيرهم من الجزائريين ما ينكأ جرحا مؤلما، لا سيما أن تفشي هذا الخلق الفاسد في كل أنحاء البلاد ظاهرة عامة لا ينكر تفشيها إلا من لا يملك جرأة مصارحة نفسه بواقع حاله؟
ليس المهم تقديم جواب عن أحد هذه الأسئلة أو عن جميعها، بل المهم التنبه إلى كون رضا الإنسان عن ذاته الفردية وعن ذات جماعته الجماعية لا ينبغي أن يغيب فيفقد ثقته بنفسه وبجماعته، ولا ينبغي أن تزيد عن الحد فتنقلب إلى حمية صنو حمية الجاهلية، أو إلى تعصب ممقوت، وشوفينية لا تليق بغير صغار النفوس والمرضى.
وإذا وضعنا هذا الكلام في سياقه الوطني العام سنلاحظ بسهولة أن نوعا من الحدة الانتقادية يهيمن على معظم سجالات الخطاب الجزائري اليومي، خصوصا في شقه الإعلامي الذي يعد واجهة السياسة والفكر بأشكالهما المبتذلة ذات الاستعمال الواسع ، وبأساليبهما البسيطة التي تميل في الغالب نحو التسرع في الأحكام و إلى “تسطيح” التفكير، عكس الثقافة الأكاديمية التي تفترض فيها الرصانة والجدية والتنظيم كما يفترض فيها العمق وربما التعقيد، غير أن واقع حالها يكشف حالة الراكد التي تهيمن عليها، كما يكشف ميل غالب أهلها إلى الكسل الفكري والفشل السلوكي.
حدة انتقادية محلية ووطنية قوية إلى درجة اتخاذها شكل نزعة أو اتجاه يلاحظ نفوذه وسطوته بسهولة ويسر كل مراقب من الخارج يضع الحياة الاجتماعية والسياسية والساحة الثقافية المحلية والوطنية تحت مجهر الرقابة العلمية التي تتجاوز الظاهرة إلى القوانين التي تحكمها، وتتجاوز البنية السطحية إلى البنية العميقة. نزعة انتقادية كثيرا ما تتجاوز في تعابيرها البدائية المبسطة عناصر وحدود النقد الموضوعي الهادئ والمنصف لتتطور إلى مجرد تعبير عن حالة (سيكولوجية ) من عدم الرضا والسخط أو الاكتئاب النفسي الممزوج بعدم الثقة، وسريعا ما تتطور تلك الحالة الذاتية إلى نزعة عدوانية نحو الآخر الذي يتخذ مسميات متنوعة مثل البروقراطية ( الإدارة)، الدولة، النظام إلخ. أوشعور بقسوة اللامساواة والفساد والحاجة إلى العدل …إلخ.
وحتى لا ننحدر نحو تنظير غير محسوب، نكتفي بطرح السؤال المباشر الآتي : لماذا اتخذت حياة أهل الجلفة، وحياة عامة الجزائريين النفسية هذا الشكل المتوتر الذي حول حياتهم الوادعة البسيطة إلى بؤرة عيش موبوءة يرزح أصحابها تحت تأثير أنواع مختلفة ومتراكمة من الضغوط، والانفعالات ذات الشحنة السلبية في الغالب؟ ولماذا يمارسون جلد الذات بصورة مستمرة، ولا يلتفتون إلى أنواع أخرى من التفكير مثل المقارنة والموازنة، أو يعودون إلى التشخيص والتحليل عندما ينظرون إلى حياتهم ومجرياتها؟
لماذا يتحول مجتمع شاب في غالب مكوناته البشرية، لديه ثروة نفطية وعائدات معتبرة، ومساحة واسعة من الأرض من مجتمع مؤهل للحيوية والسعادة إلى مجتمع قلق ومتوتر، وربما فاشل في نظر بعض المتشائمين الميالين إلى القنوط والتثبيط؟؟
موقع مميز في قلب خريطة الجزائر:
أولوية الجغرافيا على التاريخ تنبع من كون التاريخ تعاقبي وكون الجغرافيا ثابتة بالرغم من نسبية كل من الثبات والتغير في هذا الموضوع، ولكي نتعرف على دروس التاريخ التي تكمن وراء تطور الأحداث وتعاقب الأجيال، علينا أولا أن نضع موقع الجلفة ضمن سياقه باعتبار أنه محور التأثير على حياة من جاء ومن غادر ومن اندثر ومن بقي، ولا نتحدث هنا عن المدينة الحديثة التي تحمل اسم الجلفة وهي مدينة أسسها في العصر الحديث سي الشريف بن الاحرش عندما بنى زاويته التي تقع وسط المدينة ضمن الثكنة العسكرية، قبل أن يأخذها منه الفرنسيون ويقيمون لحسابه زاوية وإقامة مازالت محصورة ضمن منطقة عين شنوف. وعندما جاء المستوطنون الجدد من الأوروبيين وشيدوا تحت حماية جيش الغزو الفرنسي المدينة الصغيرة التي ربطت مع بداية العقد الثاني من القرن العشرين بطريق يصلها بشمال البلاد فكان الطريق الوطني رقم واحد.
موقع الجلفة المتوسط لخريطة الجزائر المستقلة جعل منها مركزا تلقائيا للمواصلات والاتصالات بمختلف أنواعها بين زوايا وجهات الجزائر الأربع، فشجعت الحركة الدائبة للسكان من الجلفة وعبرها وإليها على ازدهار مركزها التجاري كنقطة لقاء وتبادل لمختلف أنواع السلع، وشجعت طبيعة سكانها المرحبة بالغير المتفتحة عليه على تحويلها إلى مدينة لكل الجزائريين، لا يحس أحد بها الغربة والإنكار ، ومع أن الوافدين على الجلفة يقدمون عليها بذهنية تتصور أهلها من سكان الصحراء بسبب لهجتهم العربية الصافية نسبيا، وفنونهم وعقليتهم الهادئة، إلا أنهم يفاجأون بأن جغرافيتها رائعة بفضل محيطها الغابي الجميل، وأن طقسها بارد إلى حد القساوة بسبب ارتفاعها عن سطح البحر، وأنها أصبحت اليوم مدينة حديثة عامرة بكل ما يحتاجه التاجر والمستهلك وطالب العمل.
الجلفة من عصر الموحدين إلى عصر الاستقلال:
في عصر الموحدين كانت منطقة الجلفة مركز قبيلة زغبة الهلالية التي امتد نفوذها من الجنوب إلى التيطري، وضمت السحاري وأبناء عمومتهم من بني نايل إضافة إلى العديد من القبائل الأخرى التي تنحدر من زغبة أو من رياح وغيرهما من القبائل الهلالية و حتى من بني سليم، وكان السحاري وبنو نايل من الموالين بصورة صريحة و رسمية لدولة الموحدين في حلف للحرب والسلم مع الأمازيغ من بني يادين الزناتيين، وكان خصومهم من الثائرين على الموحدين.يتشكلون من عرب وأمازيغ يجمع بينهم حلف للحرب والسلم بالطريقة نفسها على معاداة الدولة الجديدة لحساب المرابطين، لكن هذا التمرد الذي لم تستطع دولة الموحدين القضاء عليه بصورة نهائية آل إلى الفوضى والتخريب بعدما طال أمده.
في هذه الفترة الطويلة نشأ حكم محلي( سلطنة من نوع ما) للسحاري من القرن الثاني عشر الميلادي إلى الرابع عشر، ثم بدأت أحواله تتدهور بسبب الانشقاق الداخلي والاستبداد والصراع بين الرموز الدينية والحكم المذكور، وكان دخول أولاد نايل إلى المنطقة واستيلاؤهم على معظم أراضيها مؤشرا على نهاية هذا العهد، وقيام عهد جديد بلغ أوجه أيام العثمانيين وضمن دولة الأمير عبد القادر التي ضمت المنطقة وقسمتها إداريا إلى ست مقاطعات يرأسها نواب خليفة الاميرالذي ينوب عنه في كل الأمور وعين في هذا المنصب الخليفة سي الشريف بن الاحرش. وقاد المقاومة بعد استسلام هذا الأخير التللي بن بلكحل الذي وسع من نطاق مساهمة السكان في مقاومة الاستعمار إلى خارج المنطقة شرقا وجنوبا ونحو الجنوب الغربي.
أما مرحلة الاستقلال فقد طبعها التقسيم الجديد الذي جعل من منطقة الجلفة الولاية السابعة عشرة ضمن ترتيب ولايات الوطن، لتقفز بعد استفحال ظاهرة الإرهاب إلى مركز متقدم بين المدن الكبرى التي استقطبت النازحين من ولايات الشمال والشرق والغرب . لقد حلت ولاية الجلفة مشكلات أمنية واجتماعية وتنظيمية عانت منها ولايات أخرى عديدة، لكن هذا الزحف الريفي حوّل مدينة الجلفة من مركز حضري صغير إلى مدينة ضخمة ، أجبرها النزوح الخارجي على أن تصبح تجمعا ريفيا يتجاوز طاقة الدولة على التكفل به، ويتجاوز قدرات السكان المحليين على تحويل الحشد الضخم الذي استضافوه برحابة صدر إلى مركز حضري للإشعاع المدني ، وللتقدم، ومما زاد الطين بلة أن السلطات المركزية لم تزود الولاية في معظم الأحيان إلا بالمعاقبين من الإطارات أو في أحسن الأحوال بالمتربصين والمعينين الجدد الذين هم بحاجة إلى تقاليد تكوين وتطوير. وهذا المعطى المهم جدا جعل الولاية لا تستفيد في الغالب إلا من خدمات عدد قليل من الإطارات النوعية الناجحة .
التغيير الاجتماعي والثقافي: وفوضى تداخل المراكز الاجتماعية:
يجمع سكان المنطقة بين نمطين من الاجتماع أحدهما بدوي هو نمط الرحل الذين يمتهنون تربية الأنعام، والثاني حضري مستقر، وشبه مستقر يعتمد على الإقامة الدائمة في الإقليم، وفي مكان واحد على الأغلب، النوع الأول لا يختلف عن بداوة العرب المعروفة وأهله يتحلون بأخلاق الصحراء وثقافتها . لهم فنونهم المميزة التي لا تتطابق كليا مع أي شكل فني آخر في العالم، كما أن رجالهم يتصفون بالشجاعة والفروسية، و خيلهم لا تكتسب لغير الاستعمال في الحرب على حد وصف الأمير عبد القادر في مذكراته.
أما مدنهم القديمة مثل “زنينة” و”دمد” فتعود إلى أحقاب الاحتلال القديمة الرومانية ثم البيزنطية. وسكان هذه الحواضر القدامى يتميزون بظرف الحضر، وعاداتهم في اللباس والأكل وحتى عادات الدفن والتشييع. وقد أدى اختلاط السكان إلى تغييب هذه الملامح، أو المفاصل الفارقة بل إن التمدرس المنتظم وتطور طرق ووسائل المواصلات وغيرها من العوامل إلى تمازج تلك الأنماط والأشكال فتقهقرت عربية ناس الجلفة إلى الصفوف الخلفية لحساب لهجة جزائرية وسيطة تفهم في كل مكان وتغيب عنها خصوصية التميز الأصلية.
لكن التغير الاجتماعي والثقافي لم يكن دائما إيجابيا بل كان في بعض مظاهره أقرب إلى الفوضى منه إلى التغير المنظم، وتمثل ذلك في تغير شمل العديد من العادات مثل عادات الزواج التي دخل عليها انتشار البذخ وغلاء المهور والتبذير في الولائم، ومثل تدهور نفوذ الروابط القرابية والأسرية، واختلال التقاليد الإدارية السليمة، وهيمنة طالبي الكسب السريع على النشاط الاقتصادي، لكن ذلك لا يعني غياب العادات الإيجابية التي مازالت سائدة عند الكثير من فئات السكان ومن العائلات العريقة المعروفة بالعلم وبمكانتها الأخلاقية الرفيعة.
الاقتصاد وقيم النجاح والإنتاج:
في العهد العثماني كانت الثروة الحيوانية من الأغنام والإبل والخيل خاصة مفخرة سكان المنطقة الذين استطاعوا بفضل تلك الثروات ، وبفضل فروسيتهم وشجاعتهم التي برزت في مواجهة الأتراك أن يتغلبوا على المحلة التركية المتفوقة في ذلك الوقت كما تؤكده المصادر التاريخية، مما دفع الأمير عبد القادر إلى التوجه نحوهم باهتمامه وبالفعل تؤكد الأحداث أن أولاد نايل وفروا لدولته الفتية سندا لوجستيا كانت بأمس الحاجة إليه.
خلال الحقبة الاستعمارية المظلمة دمرت الثروة الحيوانية ولم يزد المستعمر على استغلال خط السكة الحديدية الذي أقامه لنقل كميات ضخمة من نبات الحلفاء التي عرى منها كل المنطقة إلى الشمال لتحويلها خارج الحدود، تاركا السكان للمجاعة التي تسبب فيها نهب الثروات وتعرية الأرض من غطائها النباتي.
أما بعد الاستقلال فقد بدأ الوضع في العودة إلى ما كان عليه قبل الاستعمار باسترجاع السكان تقاليد تربية الأغنام والخيل ، حيث تمكنوا من توفير إنتاج حيواني يسد حاجة السكان المحليين ويتجاوزها إلى تزويد مختلف مناطق الوطن باللحوم الحمراء التي كانت دائما مفخرة موالي المنطقة، وعكس ما كان متوقعا بعد نجاح الموالين بجهودهم وإمكاناتهم الخاصة لم ينل هذا النجاح من الدولة التقدير الملائم، والتشجيع المادي الكافي، بل إن الموالين مازالوا إلى الآن يستثنون من الإعانات ومن التكفل المالي الموجه للفلاحين، مما يجعل أغلب منتجي المنطقة خارج إطار الاهتمام. والواقع أن هذا السلوك من قبل الجهات المعنية يبرر أو يفسر بصعوبة التحكم في دعم تربية الأغنام والمواشي، وهو مبرر يكشف عن قصور في تفكير بعض المسؤولين وفي نظرتهم لتراتب الفئات الاجتماعية على أساس الكفاءة والنجاح بدلا من ترتيب الاهتمام بهم على أساس الحاجة والفشل.
تعاقب الأجيال وإرث قيم الفروسية والشجاعة والتسامح:
ظل سكان المنطقة عبر القرون الثمانية الأخيرة التي ميزت نشوء اجتماعهم، وتطوره ، واستقرار العادات والتقاليد وتماسك النظم الاجتماعية والثقافية يفخرون بتاريخهم الحافل بالأمجاد، فقد كانوا سندا لدولة الموحدين، ثم برهنوا عن مقدرة فائقة على الدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم في وجه كل أنواع التحديات لا سيما تحدي السلطة العثمانية التي لم يكن باياتها في بداية الأمر في مستوى المسؤوليات المسندة إليهم. باحتكامهم إلى القوة العسكرية وحدها التي لم تغنهم شيئا في مواجهة بطولة سكان المنطقة وشراستهم وذكاء قادتهم الميدانيين المحليين.
لقد أصبحت المنطقة تحت تأثير ثقافة الأشراف الصوفية السنية المتدينة، التي رسخها سيدي نايل ، وبث جذورها سيدي محمد بن علية وسيدي سليمان، و سيدي عبد العزيز الحاج والكثير من رموز العلم الشرعي والمعرفة الدينية المحليين الذين خلفوهم وحافظوا على ميراثهم المشرف. وقد جعل منها ذلك رمزا للكرم والتدين، مثلما كانت رمزا للفروسية والشجاعة، وكانت الوصية الشهيرة ” فراش ومعاش” مؤشرا على روحية جديدة سادت جميع السكان منذ القرن السادس عشر، وميزت المنطقة بتقبلها للوافدين دون تمييز، ونبذها لمشاعر الحقد والكراهية الموروثة عن التنازع القبلي البغيض المنافي لأخلاق الإسلام .
ولا بد أن ننبه إلى أن مرحلة الاستقلال الجديدة جلبت معها الكثير من الفضائل مثل تعميم التعليم، والتكفل بالفئات الضعيفة، وتعميم الشغل في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، وتحسين المداخيل الفردية، والقضاء على المجاعة، وتحسين نوعية الحياة وتحسين أساليبها أيضا.
لكن التطورالسريع أدى إلى خلخلة البنيات الاجتماعية والثقافية التقليدية، وتدهورتأثير حيوية قيم العمل، وتفشي الاتكال على الدولة، وهذه الأنماط السلبية من السلوك ساعدت على تفشي الفوضى الاجتماعية، وزوال الحدود بين الفئات الاجتماعية، وتجريد أعيان وعلماء ومثقفي المنطقة من نفوذهم التقليدي العائد إلى الخدمات التي يقدمونها للمجتمع، وطغيان الذهنية المادية التي أضعفت طلب العلم والرغبة في المعرفة وفي التطور والتقدم، وقدمت عليها بعض أساليب الكسب السريع، وربما غير المشروع، مما تسبب في الانصراف عن العمل المنتج، والنفورمن القيام بمهام العمل الشاقة، إلى غير ذلك من مظاهر التطور غير الإيجابية.
كما أدى تهميش ذاكرة السكان التاريخية المشرفة من قبل بعض الفئات الانتهازية إلى تفشي الدعاية الموبوءة التي تقلل من شأنهم وتربطهم بظواهر لا علاقة لهم بها مثل الفقر الاستعماري المنتج للانحرافات، والحركات المناوئة للثورة التي انتقلت إلى المنطقة ونشرت بها ضلالاتها، لولا فطنة السكان وتصديهم الذي أدى إلى القضاء عليها وتحويل المنطقة إلى مقبرة لها.
هذه الفوضى في الذاكرة والاجتماع كانت نتيجتها فوضى في القيم ، واضمحلال لتماسك نسيج السكان الأصلي الراسخ المبني على ثقافة محلية قوية هي دعامة من دعائم الثقافة الوطنية الصحيحة، وتصحيح هذا الوضع غير الطبيعي يتطلب الرجوع الواعي إلى المنابع الثقافية والأخلاقية المحلية الغنية بعناصر الشخصية الوطنية الجزائرية المعتزة بذاتها وبكيانها التاريخي المستقل.
المسؤولية الأخلاقية للدولة وقادة الرأي:
صناعة الرأي تعود في الواقع إلى منتجي الأفكار، ومستهلكيها، ومروجيها بالقدر نفسه، ولكن بطرق مختلفة ودرجات متفاوتة. وإذا كان الوازع الأخلاقي والمستوى العلمي في حال تدهور؛ فإن الأفكار التي تنشرها النخبة المتهاوية سواء منها السياسية والإدارية ، أم النخبة العلمية، والدينية لا بد أن تكون أفكارا مشوهة وناقصة، أو قاصرة تماما عن أداء أي دور في المجتمع.
لم تتميز ولاية الجلفة عن غيرها من الولايات بمشكلات خاصة بها، بل إن المشكلات العامة كانت مشتركة ومتشابهة في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك فإن من أبرز المشكلات العويصة في تاريخنا المعاصر لجوء الدولة إلى التخلي عن التجارب الوطنية الكبيرة عند أول شعور من المسؤولين بوجود بوادر فشل تهدد نجاح العملية، وهذه الطريقة المطبقة كانت وخيمة العواقب، لأن منطق التسيير السليم يثبت أنه كان بإمكان السلطات المركزية المعنية القيام بتقييم موضوعي صحيح ، وتصحيح الاختلالات دون إلغاء التجربة، والبدء من جديد في تجربة أخرى مغايرة، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى هدر الوقت، وهدر الخبرة والمعرفة المتراكمة من التجارب السابقة حتى لو كانت قد فشلت.
في هذا السياق يمكن التذكير بما تعرضت الدولة له في التسعينات و خصوصا ما تعرضت له منظوماتها التعليمية بمختلف مستوياتها من مظاهر الانتقاص من فعاليتها، فقد تم قبل ذلك أي في الثمانينات التخلي عن التأطير الأجنبي (الأوروبي وحتى العربي) بدلا من تثمينه وغربلته طلبا للجودة واجتنابا للرداءة، وتم ذلك بمبرر موضوعي هو الجزأرة، والأزمة المالية بعد 1984، وكانت تلك ضربة قاضية للمستوى العلمي الذي كان مقبولا بل جيدا خصوصا بولاية الجلفة.
أما في التسعينات فقد أدى الصراع الإيديولوجي إلى إفشال المدرسة الأساسية وانهيار المنظومة التربوية بصورة تكاد تكون كاملة، حيث عمد البعض إلى تعريب ثم إلى أسلمة شكلية للمنظومة التربوية، بينما عمد خصوم هذا الاتجاه إلى محاربة ذلك بحجة أن المنظومة نشرت الأصولية والفكر المتطرف، والواقع أن المنظومة سعت إلى نشر الفكر الفلسفي بما فيه الميتافيزيقا والإلحاد، بدلا من نشر الفكر والثقافة العلمية والمنهجية، تماما كما علّمت اللغة العربية وبعض التعاليم التي وضعت تحت مسمى التربية الإسلامية. ولم يكن ضعف المنظومة عائدا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك بل كانت المشكلة مشتركة بينهما .
لقد كان من السهل على أي اختصاصي أو باحث جاد في التربية ملاحظة سلسة من الظواهر السلبية التي نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر : غياب التكوين البيداغوجي لدى مؤطري المنظومة في بعض الأطوار المهمة، وغياب الاختصاص، وفشل التسيير التربوي العائد إلى انعدام التكوين والكفاءة لدى المسيرين، فضلا عن عجزهم عن الإبداع، وعدم مواكبة فرق دراسة وأبحاث للمشاريع المطبقة، والتسيير السياسي والإداري للملف التربوي من قبل الحكومة بدلا من التكفل العلمي المتخصص، وغياب التخطيط للسياسة العلمية الوطنية العائد إلى قصور الرؤية الفكرية للشأنين التعليمي والعلمي معا…إلخ كل هذه الظواهر يمكن في واقع الأمر جردها ضمن الأسباب الحقيقية لتدهور العلم والتعليم في الجزائر الذي يتحمل مسؤوليته بالتساوي وبنفس القدر المعربون والمفرنسون، الإسلاميون واليساريون، الوضعيون ودعاة الأصالة. فالكل شارك ولم يدخر جهدا في تغليب قناعاته غير المحسوبة، وحتى أنانياته أحيانا على المصلحة العامة للبلد وعلى مصلحة المتعلم الذي هو موضوع العملية التعليمية المغيب، وهدفها.
فأين يكمن الخلل في رواج وهيمنة واستفحال الأفكار المشوهة داخل مجتمعنا المحلي، وضمن المجتمع الجزائري بصورة عامة؟ وهل بإمكان البالي أن ينتج الجديد؟ وهل بإمكان القاصر أو “نصف المتعلم” أي شبه المتعلم ، المفتقر إلى توازن معارفة وإلى اكتمال جهازه المعرفي وأدوات تفكيره اللازمة أن يزودنا بالمعرفة المكتملة الشروط ، أي ذات الفائدة المضمونة؟؟
أول المعالجة هو أن يعترف كل واحد منا بمسؤوليته، وبضرورة أن يقوم بمهمة التصحيح على مستواه الفردي وضمن محيطه، أي أن يعمل كل منا على تصحيح الخلل في جهاز تفكيره، في عاداته السلوكية القرائية والكتابية أولا، وفي كل ما يترتب عن ذلك من تنظيم حياته العلمية واليومية التي تحتاج إلى التفكير الموضوعي، كما عليه أن يقوم بإلغاء الجيوب والهوامش التي تشكل عوائق في وجه تعلمه أو تطوره أو تألقه، أما ما يتعلق بالمجتمع فليس من المعقول أن يتحقق دفعة واحدة، إنما ما يمكن فعله هو عمل الدولة وفي هذا المجال يمكن اتخاذ تدابير وإجراءات تقنية – لا إيديولوجية – مجمع على أنها ضمن جوهر الحل الموضوعي الذي لا يختلف بشأنه اثنان : ومن هذه التدابير ما هو مهم وعاجل مثل :
– تدعيم التأطير بالخبرة الأجنبية النوعية ذات المستوى العالي ( على غرار ما يتم فعله في مجال كرة القدم على سبيل المثال ).
– التكفل الموضوعي بتحسين شروط التكوين التربوي والعلمي.
– فصل التسيير التربوي عن التسيير الإداري على مستوى التوظيف وعلى مستوى التنفيذ.
– التخطيط العلمي لتحديد وتطوير مسارات السياسة العلمية التي تشكل روح الأمة وطليعة تطورها. – التكفل بصناعة العقل المتفوق، ومن خطواته فصل تكوين النخبة من المواهب وذوي الاستعدادات الاستثنائية عن الحشد أي عن جمهور المتعلمين العاديين، واستخدام تنظيمات ووسائل وإمكانات استثنائية تتلاءم وطبيعة المهمة.
تحدي المستقبل
وخلاصة القول في هذه الورقة : إننا بعد أن أشرنا إلى ماضي سكان منطقة الجلفة بمآثره العديدة ودروسه، نشير في ختامها إلى جوهر كل التحديات التي تترصد مستقبلهم ومستقبل منطقتهم، لأن المستقبل يبقى حصاد زرع الماضي. ولذلك فإن أوكد التحديات التي تواجه سكان المنطقة بعد أن تحولت، ومازالت تتحول إلى مركز استقطاب سكاني ضخم لكل الجزائريين لا سيما القادمين من الشمال، هو تحدي المحافظة على هويتهم المحلية الصحيحة القائمة على العمل و النجاح و وتقبل كل وافد يوفر إضافة مهنية أو أخلاقية أو اقتصادية للمجتمع الجزائري الواحد
كما أن التحدي الثقافي يفترض المزيد من قيم التسامح التي تميزهم عن غيرهم من أجل جعل كل من يختلط بهم يتشرب هذه الثقافة الإنسانية الرفيعة المترفعة عن الشوفينية والتعصب والعنصرية. لأن ثقافة سكان الجلفة الأصلية هي إحدى المقومات الأصيلة لتراث الجزائر المستمد من نبع روحي عظيم امتزجت فيه العروبة بالإسلام والأمازيغية.
– بقلم الدكتور: محمد الطيب قويدر