بعيدا عن تعليق الصحف الإسبانية الصادرة يوم أمس التى تسألت عن ماذا يحدث في الجزائر وتناول مختلف القنوات لحدث وصول مايفوق من أربعمائة حراق إلى السواحل الإسبانية ليلة البارحة فإن ظاهرة الحرقة التى عادت بقوة تستلزم وقفة متأنية لمحاولة فهم جذور وأسباب هذه الظاهرة دون تشنج أو ديماغوجي .. .
شباب يرى الأفق مسدود والفرص منعدمة يشعر بالإحباط والظلم لا يجد إلى تحقيق ذاته وطموحاته البسيطة في عيش كريم سبيلا ، تضيق عليه أرض الوطن بما رحبت تدفعه الى المغامرة والمخاطرة من أجل بلوغ الضفة الأخرى من المتوسط لتحقيق تلك الأحلام والأمال البسيطة قد لا يحقق منها الكثير ولكنه يشعر بالحرية والكرامة .
دفعات وراء دفعات من خريجي الجامعات والمعاهد ومعاهد التكوين المتخصصة لا تجد لها حظّا في سوق العمل ويصبح حلم التوظيف بعيد المنال يوما بعد يوم مع انعدام سياسة توظيف واضحة وواقعية لإمتصاص هذا الضغط الهائل الناتج عن تراكم تجارب سابقة تجتمع كلها في الفشل إزاء هذه الظاهرة التى تستفحل وتزداد خطورة في ظل غياب حلول مدروسة وناجعة، غير الأعداد الهائلة من الشباب دون مؤهلات الذين لا يجيدون غير الشارع يفتح لهم أبواب الانحراف في غياب برامج تأهيلية ملزمة تتكفل بهذه الفئة وتوجيهها إجباريا إلى ميادين التكوين المختلفة كما هو معمول به في سائر الدول حيث التعليم والتكوين إجباريا الى غاية سن الثمانية عشر .
في ظل هذه الضبابية وهذا الواقع المرير الذي يعيشه خريجو الجامعات والمعاهد الذين لا يجدون فرصة لتفجير طاقتهم وتثمين مكتسباتهم التى حصلوها على مدار أعوام الدراسة والتكوين الطويلة واصطدامهم بشبح البطالة القاتل تكاد الحلول أن تكون بلا جدوى لبعدها عن الواقع و انغماسها في التبريرات ولعبة الأرقام التى تؤدي دور المسكّنات الظرفية سرعان ما يزول مفعولها ونرجع الى نقطة الصفر ، بعيدا عن حلول جذرية ترتكز على أسس علمية ودراسات معمقة واضحة المعالم تأخذ بعين الإعتبار إمكانات ومقدرات البلاد في رسم سياسة توظيف جديرة بتقليص نسبة البطالة المتفشية وبلوغ حدودها المعقولة من خلال توجيه التكوين في القطاعات التى تعول الدولة عليها للنهوض اقتصاديا ( الزراعة والصناعة مثلا) في سياسة متناغمة بين الجامعات ومعاهد التكوين المختلفة والقطاعات الأخرى التى يعول عليها لامتصاص الكوادر الجامعية واليد العاملة المؤهلة بما تقتضيه حاجة تلك القطاعات وإعادة النظر في التخصصات إن على مستوى الجامعات أو مراكز التكوين حتى نتفادى أعداد أخرى من حاملي الشهادات لا يجدون مكانا في سوق العمل.
الجزائر تملك قاعدة صناعية وخبرة سنوات في هذا المجال يمكنها النهوض بالقطاع إن توفرت الإرادة في إعادة بعث وتأهيل النسيج الصناعي المتواجد بكل مناطق البلاد وفي شتى المجالات والاختصاصات الصناعية في مرحلة أولى، دون الحاجة الى الذهاب إلى إنشاء مؤسسات اخرى فد تكون الحاجة إليها بعد اتمام والانتهاء من مرحلة تأهيل المؤسسات الموجودة التى طالها الإهمال ومحاولة تكسيرها عمدا إذ لا يعقل ان نفكر في صناعة ميكانيكية مع تواجد مصانع ومؤسسات إنتاجية ضخمة كانت فخر الصناعة الجزائرية في وقت من الأوقات وما تتوفر عليه من إمكانات بشرية ومادية تحتاج فقط إلى إرادة جادة وحزم وعزم لإعادة تأهيلها وتحديث معداتها و طرق تسييرها بما يتماشى والوقت الراهن يمكن لسوناكوم أن تسترجع دورها ويمكن لمركب الجرارات بقسنطينة ومركب العتاد الفلاحي برويبة وبلعباس ومركب الدرجات النارية بقالمة أن يكونوا قاطرة لهذه الصناعات ، يمكن لشركة “انيام” وفروعها المنتشرة في شتى مناطق الوطن وشركة إيني لو توفرت إرادة حقيقة وهي المعروفة بجودة منتجاتها ان تكون كذلك قاطرة للصناعات الإكترونية ،لو أن الأموال التى ضختها البنوك العمومية في ورشات نفخ العجلات ومستودعات السلع الإلكترونية شبه الجاهزة ضُخت في فائدة هذا النسيج الصناعي الضخم وتوفرت الإرادة والنظرة المستقبلية لكانت للصناعة الجزائرية اليوم قد قطعت أشواطاً كبيرة في تغطية الطلب المحلي والتوجه الى التصدير واستعادة أسواقها الضائعة على أقل تقدير وخلق جو تنافسي وتوفير خبرات معتبرة للمؤسسات الناشئة في هذا المجال ، كما لايعقل أن نتحدث عن الصناعات التحويلية والغذائية دون ان نلتفت الى الإنجازات السابقة من مصانع تتوزع على جميع جهات الوطن ، مصانع الخميرة والسكر والعصائر والبسكويت والطماطم ومعجون الفواكه ومركبات ملح الطعام الى مصانع تعليب المنتجات البحرية ومركبات سومباك العملاقة ، ومحاولة تأهيليها بما يتماشى ومتطلبات التسيير العصري الناجع وإنقاذ ما يمكن انقاذه بعد محاولات تحييد هذا النسيج وانهاء دوره من طرف لوبيات الفساد السابقة التى جعلت من مطاحن مجهرية تنافس العملاق “سمباك” بما يملكه من معدات وطاقات تخزينية هائلة ويد عاملة لها خبرة طويلة في محاولة مفضوحة لتكسيرها وإفلاسها ومن ثم الإستلاء عليها بالدينار الرمزي …دون الحديث عن قطاع النسيج والجلود وشركات البناء الضخمة والمؤسسات الخدماتيه الأخرى في كل القطاعات التى كانت توفر مناصب الشغل لخريجي الجامعات واليد العاملة المؤهلة.
على الدولة اليوم أن تستعيد زمام المبادرة في إعادة ترتيب بيت الاقتصاد الوطني الذي هو قاطرة التقدم وإعادة الإعتبار وبعث الروح من جديد في المكتسبات السابقة وتحيين دورها بما يتماشى ومتطلبات الحاضر في إطار خطة شاملة للنهوض بالاقتصاد الوطني وتحسين أدائه لمواجهة تحديات الراهن وتحسين ظروف العمل وخلق مناصب شغل جديدة لإستعاب او التقليص من الأعداد الهائلة من طالبي الشغل ، بعيدا عن التجارب السابقة التى اثبت الواقع عدم جدواها وكانت وبالا على الاقتصاد الوطني ولم يعد خافيا أن القصد كان تحطيم المؤسسات الوطنية وخنقها للوصول إلى تبعية تكاد أن تكون مطلقة للخارج وإعادة تقييم البرامج التى كان يراد لها أن تخلق مناصب شغل والتخفيف من أعباء البطالة وخلق الثروة برامج لم تحظى بدراسة معمقة غلبت عليها الشعبوية في محاولة بائسة لشراء السلم الإجتماعي والنتيجة مانراه اليوم من احتجاجات شبه يومية لشباب استفادوا من هذه البرامج مطالبين بمسح ديونهم تجاه البنوك يعتبرون أنفسهم ضحايا لسياسات متسرعة جعلت من أكثرهم ( مديون برتبة بطال) …
إن خلق الوظائف وفتح مناصب الشغل وتحسين ظروف العمل من خلال دعم القطاعات المنتجة الى تتوفر على فرص النجاح التى تمر حتما على تقييم صارم وجاد وإصلاحات جذرية اكثر صرامة من شأنه ان يخلق جوّا من الثقة الذي اعتقد انه ضروري لدفع عجلة التنمية الى الأمام هذه الثقة ان توفرت تجعل الشباب حتما يقبل برفع التحدي بعزيمة وإصرار في سبيل النهوض بالاقتصاد الوطني عوض المخاطرة وركوبه قوارب الموت
الدولة من واجبها السعي الحثيث لحل مشاكل المواطن الى يعيشها يوميا وليس إعادة تذكيره بها في محاولة غير مجدية للتغطية على العجز في ايجاد الحلول من واجبها توفير مناصب شغل بأجر يحفظ كرامة المواطن يؤمن له حاجاته الضرورية دون إرهاق يمكّنه من عيش كريم دون ضغوطات كالتي نعيشها حاليا حيث المرتب لا يكفي حتى لدفع الإيجار الشهري ناهيك عن أشياء اخرى أين اصبح كيلو لحم طازج رفاهية بعيدة المنال،قد يكون من واجب الدولة توفير سكن لائق لمواطنيها ولكن من الضروري دفع راتب يمكن المواطن من تسديد أعباء الكراء وتأمين حاجياته الأخرى من دفع فواتير الكهرباء والغاز والماء وأعباء دراسة ابنائه راتب يمكنه من فتح دفتر توفير أو ان يتقدم بملف الى أي بنك لشراء مسكن أوسيارة ويقبل ملفه بضمان مرتبه ، نحن اليوم أمام حاجة ماسة لمراجعة السياسة الاجتماعية المنتهجة التى خلقت جيلا إتكاليا يطالب بالحقوق دون الواجبات جيل الوثائق الإدارية والملفات ،نحن في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإعادة الإعتبار لقيمة العمل ومن واجبنا أيضا ان نواجه مشاكلنا بشجاعة وصراحة قد تكون مؤلمة ولكنها ضرورية لتجاوز هذا الوضع .
الشباب يحتاج ان نؤمن بقدراته وأن نثمن كفاءته ونثق في استطاعته رفع التحدي ونتيح له الفرصة لإثبات ذاته وتحقيق طموحاته المشروعة في كنف العدل والمساواة والحرية يحتاج الى إرادة جادة يؤمن بها تسعى الى التكفل بانشغالاته يحتاج الى صراحة بعيدا عن التصريحات المستفزة ( اشرو كبش العيد بالبطاقة الذهبية) …
صراحة حافية ( نوضو نخدمو على أرواحنا ولي كان نقسموه).
بقلم الكاتب: سعيد عياشي