ارتبطت نشأة الإنسان بالصراع لأجل البقاء، فتنوع ذلك الصراع حسب الحاجة الوجودية لهذا الفرد، من هنا يرى في هذا المؤشر الوجودي على أنّه ظاهرة ذات أبعاد متناهية التعقيد وبالغة التشابك مما يعني أن وجودها يمثل أحد معالم الواقع الإنساني الثابتة منذ تخلق الإنسان الأولى إلى غاية اللحظة في مستوياتها المختلفة فردية كانت أو جماعية وإقليمية أو عالمية، فكان منها تولد النزاع والسلام، وهما بدورهما ليسا ساكنين ولا عشوائيين بل حيويين ديناميكيين ويتطوران بعامل الزمن ويمكن تفسيرهما وتوجيه وجودهما، ولن يتأتى ذلك إلاّ بالمعرفة الدقيقة بالجهة مصدر الصراع بما يعرف كاصطلاح استراتيجي “العدو”.
فكلّ معرفةٍ هي بشكل ما معرفة سياسية، وهي في نفس الوقت تؤدي وظيفة اجتماعية وسياسةُ، بل يحددهما تأثيرا وتأثرا السياق التاريخي والاجتماعي والنفعي الاقتصادي… فمن هذا المبدأ قبل أكثر من ألفي عام أطلق حكيم الحرب الصيني “صن تزو” شعار “إعرف عدوّك” معتبراً هذه المعرفة فيصلاً يحدّد بها النصر والهزيمة بين قوى التصارع، ويُستشف من استطراده حول معرفة العدو بأنّ هذه المعرفة إذا ما استخدمت بشكلٍ استراتيجيٍّ يمكنُها حسم الصراع بدون معركةٍ ولا حربٍ، فعلى هذا الأساس فالمعرفة بالعدو لا تعدّ شرطاً للنصر فقط وإنما أداة للصراع معه؛ حيث أنّ المعرفة بالعدو هي دائماً معرفةٌ استراتيجيةٌ لها دوراً وظيفياً، إذ أنّ دورها ووظيفتها بنفس أهمية دقتها وصحّتها…
“اعرف عدوّك.. اليوم قبل الغد…”
فانطلاقا من أن منهجية معرفة العدو تجمع ما بين دقّة وصرامة المنهج العلمي ووضوح الوظيفة الاكاديمية لهذه المعرفة ولذلك يمكننا الاشتغال عليها وتطويرها كفلسفةٍ بحثيةٍ لدراسة ما يسمى بالكيان “الصهيوني” كاختيارٍ واعٍ ومدروسٍ، لا كشعارٍ فضفاضٍ، من هنا فالدراسات الصهيونية أو ما يقابلها اصطلاحا وتواضعا في ذلك الدراسات ” الإسرائيلية” قد أضحت مجال طرح أكاديمي لبعثها في كذا مجالات بحثية ومخبرية بالجامعات والمعاهد الجزائرية كضرورة تفرضها اللّحظة، فمن خلالها يمكن تشكيل رؤية واضحة حول التحديات التي تحيط بالجزائر وانعكاساتها على حركيتها المتعدّدة الجوانب، حيث نشير إلى أن الغاية منها برأي المختصين تشكيل قاعدة معلومات ذات أبعاد سياسية، واجتماعية، واقتصادية في إطار تاريخي حول بدايات المشروع الصهيوني، فهل من الضروري بعث منصة بحثية لدراسة الشؤون الصهيونية في مجالاتها المختلفة، بغية استصدار دراسات وتقارير وتحليلات حول الشأن الصهيوني؟
يرى البروفيسور “حكيم غريب” الخبير في الشؤون الأمنية والاستراتيجية أنّ طبيعة ” الكيان الصهيوني ” الاستعماري الاستيطاني لا تكفي لدراسته من المنظور الأحادي للاستعمار الاستيطاني، إذ يقدم هذا المنظور إطاراً تحليلياً ضرورياً، إلّا أنه ليس كافياً، حيث أنّ ثمّة مشتركاتٌ ما بين ” الكيان الصهيوني” كحالةٍ استعماريةٍ استيطانيةٍ مع غيرها من الحالات الاستيطانية، إلا أنها تمتلك خصوصيتها التاريخية، وبقدر ما كان فعلاً استعمارياً فهو -أي الكيان الصهيوني – ردةُ فعلٍ على مقاومة إرادتَها الاستعماريةَ أيضاً. وبالتالي يتحتّم علينا إنشاء مشروع بحثي في الجامعات الجزائرية والمدراس العسكرية العليا كتخصص أمني واستراتيجي لمواجهة العدو الأوّل للأمة العربية والجزائر بالدرجة الأولى… حيث يؤكد أن ذلك لا يكون إلاّ من خلال إرساء مقاربة تحليلية بانتهاج أداة الاستقراء التاريخي لمئة عام من الصراع مع العدو الصهيوني.
ويشير البروفيسور حكيم غريب في إجابته أن إنتاج معرفةٍ رصينةٍ حول العدو تتطلب بناء مقارباتٍ تحليليةٍ على مستوى الموضوعات لكل موضوع أو بحثية، لا يتولّد بالركون إلى نموذج نظري شمولي كلي، معتقدا أنّ الوقت حان لبعث منصة بحثية لدراسة الشؤون الصهيونية في مجالاتها المتعددة بغية استصدار دراسات وتحليلات حول الشأن الصهيوني خاصة في ظل التكالب على الجزائر عبر استهداف وحدة أراضيها وشعبها لم يعد خفيا، خاصة والوقت الراهن التي تتسلسل فيه الأحداث وتترابط فيه خيوط الفتن التي تقف وراءها جهات تجنّد كل ما لديها من وسائل وأدوات خبيثة متحالفة في ذلك مع الكيان الصهيوني في محاولة ضرب الوحدة الوطنية والاستقرار الجزائر، يستخدمها النظام المغربي تواطؤا من خلال الحرب الإعلامية والدعائية المغرضة وتصوير وضع مغلوط عن الجزائر، حيث راح المخزن من خلال أذرعه وأبواقه يحاول عبثا زرع الشك في عقول الجزائريين من أجل تحقيق أهداف دنيئة متمثلة في محاولة تشتيت الصف الداخلي وإشعال نار الفتنة بغرض تقليص دور الجزائر وضرب مصداقيتها كدولة محورية في المنطقة الإقليمية…
“تخطيط صهيوني ممنهج لخلق حالة اضطراب في الجزائر لأجل التطبيع…”
ويقول البروفسور ” حكيم غريب ” أن الواقع الجغرافي الاستراتيجي والتحديات الأمنية التي تواجهها الجزائر خاصة مع موجة التطبيع بين الكيان الصهيوني ودولة الجوار تمثل حافزا لزيادة الاهتمام بمجالات الاستخبارات والأمن الوطني في الأوساط الأكاديمية والأمنية بالكيان الصهيوني، مضيفا أنّه مما لا شك فيه أن سياسة الحركة الصهيونية تتسم بالخطورة الشديدة ولا ينتبه لها الكثيرون بل لا يعرفون أساسا أنهم أمام خطر شديد قد يسلب منهم بلادهم ويجعلهم لاجئين مدى الحياة، لذلك فإنّه من الحرص على كلّ المُطّلعين والباحثين على تعريف المجتمع الجزائري بهذه الحركة وتحذيرهم لهم من سياساتها، وذلك من أجل خلق وعي وطني كامل و متطور حول ما تنتهجه هذه الحركة من سياسات.
ويرى الخبير في الشؤون الأمنية والاستراتيجية أنّ ذلك لن يتأتى إلاّ بضرورة إنشاء تخصص علمي متطوّر في مجال الدراسات الصهيونية، على اعتبار أن هذا الأخير الكيان نرى فيه عدواً، وبالتالي يجب الاستعداد له بجدية و ليس مجرد خبر يترجم في صحيفة، مستدلا في ذلك ببعض النماذج لمراكز أبحاث تركز على الجزائر كمركز دراسات الأمن القومي، مركز هرتسيليا، مركز إسحاق رابين وبيجن السادات التي تشرّح الحالة الجزائرية من اهتمام بيوت الخبرة ومراكز الأبحاث في إسرائيل، بل يهتمون بالشأن الجزائري بكل تفاصليه.
وحول التحديات الحالية التي تشهدها الجزائر ضمن السياق الجيوسياسي، يؤكد البروفيسور أنّ هناك إثباتات بوجود تخطيط صهيوني متزايد لخلق حالة اضطراب في الجزائر وانهاكها بهدف جرّها إلى ميدان التطبيع، إضافة إلى الاهتمام الصهيوني المتزايد بشكل كبير في الجامعات ومراكز الأبحاث الصهيونية بدراسة الجزائر مع نشره قائمة من هذه الدراسات، كما أنّ هناك استطلاعات للرأي الصهيونية تشير نتائجها إلى أنّ الصهاينة يعتقدون أن المجتمع الجزائري هو المجتمع العربي الأكثر كراهية لكيانهم والذي يجب جرّه إلى ميدان التطبيع أو انهاكه، موضحا في السياق إلى أنّ علاقات المغرب مع الكيان الصهيوني بدأت بشكل سري منذ بداية الستينات من القرن الماضي عندما أرسل الكيان الصهيوني للمغرب في أكتوبر عام 1963 طائرات حربية ودبابات من صنع فرنسي عبر صفقة رتّبها شاه ايران لمواجهة القوات الجزائرية( حسب وثيقة للكيان الصهيوني) …
- يتبع …
أخبار دزاير : بوبكر سكيني