الفرنسية لغة جميلة، كما كل اللغات الأخرى، لكنها ليست غنيمة حرب، كما يدعي بعضهم لمقاصد مضمرة. إنما وسيلة ناجعة لتقويض الذات، ووسيلة لتقوية نخب موالية تحتكر الخطاب والثقافة ووسائل التقييم والتقييس وخاصة إذا تم استغلالها في إطار التجنيد المسكوت عنه لتسويق منظومة من العلامات الوافدة، أو من أجل تكريس ما ليس له علاقة باللغة كوسيلة من وسائل التبليغ. وإذا افترضنا أن الفرنسية غنيمة حرب، أليس بمقدورنا أن نتعامل مع الانجليزية ولغات أخرى …بدون حرب؟” د. السعيد بوطاجين.
لا يهم ما إذا كان الفيلم الوثائقي لقناة “فرانس 5” العمومية الفرنسية، مشينا أو حتى خادشا للحياء، أو كان عملا انتقاميا من فرنسا ضد “الحراك المبارك” لأنه أسقط العهدة الخامسة ومعها رعاة المصالح الفرنسية في الجزائر، كما فسره بعض ممن تفاعلوا بغضب.
لكن الأهم هو هل يمكننا كجزائريين، أن نجلس للتفكير بهدوء وبجد في كيفية الشفاء من “المرض الفرنسي” نهائيا، حتى نتمكن من بناء دولة الاستقلال الحقة التي مات من أجلها أزيد من 5 ملايين جزائري منذ 1830.
قد يتفاعل البعض أو حتى الأغلبية بغضب شديد ثم تمر العاصفة، لكن الذي يفيد الجزائر ويحمى مصالحها الإستراتيجية والوجودية على المدى البعيد كأمة وكدولة ليس الغضب الآني العابر. إن الذي يحمي ديمومتها ضمن مسرح الأمم هو التفكير بهدوء في الآلية التي توجد العلاج للسرطان الذي ينخر الجسد الجزائري لما يناهز قرنين من الزمن.
لن تصمت فرنسا وهذا طبيعي جدا، لأن الأزمة وصلت إلى عقر دارها وهي ترى من ربتهم على أعينها لعقود طويلة وهم يساقون فرادى وجماعات إلى السجون، لن تسكت وهي ترى وصول رجل من خارج الدائرة العميلة إلى الحكم بعدما تبين لها أنها استمسكت بعروة الجزائر إلى الأبد، ولن تصمت وهي ترى اقتصادها يجني أولى الارتدادات بعد سجن العصابة وشروع شرفاء هذا الوطن في وقف النهب المقنن لما يزيد عن 10 مليار دولار سنويا تحول إلى فرنسا تحت مسميات عدة.
لا يمكن أن تلام فرنسا عندما تتصرف مع الجزائر وكأنها قطعة تابعة لها ضمن أقاليم ما وراء البحار كما كانت قبل 1962. كيف للبعض أن ينتفض ضدها والإدارة تعمل بالفرنسية والاقتصاد يدار بالفرنسية والشعب يخاطب بالفرنسية، وحتى عندما يتعامل الرسميون في الجزائر مع سفراء دول الشرق والغرب يعاملون بالفرنسية، والأدهى والأمر أن تمثيل البلد في المحافل الدولية لا يتم تقريبا إلا بالفرنسية، حتى أن هناك من أصبح يعتقد يقينا أن الفرنسية في الجزائر أصبحت هي المخرج من صراع ثنائية الهوية العربية والبربرية.
إن أغلب النخب الفاعلة في البلد منذ الاستقلال، كانت فرنسية لسانا وإيديولوجية، كما أن العربية لم تكن سوى لغة النخب الهامشية المهٌمشة التي لا تستعمل سوى للفلكلور شبه الرسمي، بل أن الفرنسية كانت أيضا لغة النفاد إلى مناصب القيادة والمسؤولية، والوصول إلى الثروة والاستحواذ عليها وتدويرها بين مجموعة إيديولوجية معروفة لم تستعمل اللغة كوسيلة تعبير عن انتماء بعينه يسمح بالدخول إلى نادي تقاسم الريع والمناصب بما يخدم فرنسا بشكل صريح ومباشر، ولما نعرف هذه الحقيقة نفهم لماذا تحارب فرنسا وجنودها في الجزائر مشروع التعريب ولماذا تحالفت فرنسا مع رعاة مصالحها لإسقاط الرئيس المرحوم الشاذلي بن جديد بسبب قانون تعميم استعمال اللغة العربية، وكيف خططوا وهندسوا لإبعاد الرئيس الأسبق ليامين زروال الذي قرر رفع التجميد عن قانون التعريب عام 1996، ثم كيف وفرت فرنسا وحلفائها في الجزائر الحماية المطلقة للرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة الذي أعاد للفرنسية مجدها في الجزائر خلال 20 سنة من حكمه.
إنهاء الهيمنة الفرنسية في الجزائر لن ينتهي إلا بنهاية هيمنة اللغة الفرنسية
ستستمر الهيمنة الفرنسية على الجزائر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وستسمر الجزائر في خدمة فرنسا بدون أن تطلق فرنسا طلقة واحدة أو يسقط لها جنديا واحدا من جنودها، وسيستمر الاقتصاد الجزائري برمته والمدرسة والجامعة الجزائرية في خدمة فرنسا، ما دامت اللغة الفرنسية سيدة في هذه الأرض.
يمكن للجزائر أن تنهي الهيمنة الفرنسية ليس على المنطقة المغاربية فحسب، بل الهيمنة الفرنسية على دول الساحل الإفريقي وحتى منطقة الفرنك الفرنسي برمتها، وكل ذلك لن يمر سوى من باب واحدة وهي إنهاء هيمنة اللغة الفرنسية على الإدارة الجزائرية. إن الحل الأمثل يمكن في التجربة الفيتنامية مع اللغة الفرنسية، لأنه بدون إنهاء هيمنة اللغة الفرنسية، فلن تنتهي صناعة النخب المرتبطة وجوديا بفرنسا، وبدون إنهاء هيمنة اللغة الفرنسية فلن ينتهي اعتبار النخب المعربة مجرد قطيع هامشي لا يستحق سوى التبن وفي أحسن الحالات الشعير، بنفس النظرة التي سادت خلال سنوات عقود الاستعمار الفرنسي.
فرنسا وورقة حركة استقلال منطقة القبائل (الماك)
ستستمر فرنسا في لعب ورقة اللغة لأنها مجدية جدا وستلعب معها ورقة النخب التي ترى في “اللغة الفرنسية غنيمة حرب” ولن تتوقف أيضا عن دعم المسخ الذي صنعته وترعاه المتمثل في حركة استقلال منطقة القبائل (ماك-MAK) التي مقرها باريس، و التي ترى في الجزائر واللغة والدين الإسلامي، دولة ولغة ودين استعمار للمنطقة، وهذا ضمن سياق المدرسة الكولونيالية التي تدعمها مدرسة الآباء البيض التي استثمرت في المنطقة بقوة لتكوين “نخبة أقلية” نافدة جدا تعتقد بصحة هذه الأفكار الشيطانية وتعمل على ترويجها بزعم حماية هوية الشعب الأمازيغي الأصيل التي تختلف كل الاختلاف عن الهوية العربية الإسلامية، وهذا بتعبير من فرحات مهني في تصريحات رسمية خلال زيارته إلى الكيان الصهيوني في 20 مايو 2012 والتي أعلن خلالها أن دولته لن تتأخر عن فتح سفارة للكيان الصهيوني.
المثير للانتباه، أن زيارة فرحات مهنى، إلى إسرائيل التي دامت أربعة أيام، والتقى خلالها نائب رئيس الكنيست، في إطار ما وصفه بالنشاطات “الدبلوماسية للحكومة القبائلية المؤقتة” والتي مقرها العاصمة الفرنسية باريس، أن وزارة الخارجية يومها لم تعلق على الزيارة الاستفزازية التي أعقبت تحولا لافتا في المطالب الذي كان يرفعها المناضل السابق في الحركة الثقافية البربرية قبل أن يتحول إلى النضال السياسي ضمن التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية بعد دستور 1989 الذي سمح بالتعددية السياسية، قبل أن يختلف مع رئيس الحزب سعيد سعدي ويؤسس ما يسمى بـ “الحركة من أجل الاستقلال الذاتي لمنطقة القبائل” في 2001، في خضم أحداث “الربيع الأسود” التي استمرت إلى غاية 2003، وأعلن بشكل وعبر صراحة أنه يريد الانفصال بمنطقة القبائل عن الوطن الأم، وأن مطلب الحكم الفدرالي الذي كان يناضل من أجله داخل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، مطلب تجاوزه الزمن.
ويلقى مهني دعما قويا من الحركات الطلابية داخل الجامعات في ولايات تيزي وزو مسقط رأسه وبجاية والبويرة وبعض جامعات الجزائر العاصمة، وفي أوساط طلابية ومهاجرين في فرنسا وكندا، وكل هذا في ظل صمت القبور الذي كانت سائدا من الجهاز الدبلوماسي في عهد الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة طيلة قرابة عقدين.
بقلم: عبد الخالق المحمدي