لم تتجرع فرنسا كـأسا أكثر مرارة بعد تلك التي سقيت بها ذات 24 فبراير 1971 بتأميم المحروقات، إلا بنجاح الجزائر في تنظيم انتخابات 12/12/2019 وفوز الرئيس عبد المجيد تبون.
لقد عملت فرنسا وأجهزة استخباراتها ورعاة مصالحها على إفشال الموعد الانتخابي على أكثر من صعيد وعلى عدة محاور، تراوحت بين الدفع لفرض تمرير مرحلة انتقالية والترويج لرفض تنظيم الانتخابات والدفع بتيار معين لركوب الحراك وتحويله عن وجهته الأصيلة نحو ضرب الجيش الشعبي الوطني ومؤسسات الجمهورية وثوابت الأمة الجزائرية، لكن السؤال الكبير.. لماذا كل هذا؟
في 08 أكتوبر 2002 قرر وزير الخوصصة عبد المجيد تمار، بيع 1200 شركة (كانت ضمن الأموال التجارية للدولة) بحجة وضعيتها المالية الصعبة، ليتم بيعها بالدينار الرمزي لعصابة لصوص محليين وأجانب حولوا تلك الشركات التي صنعت مجد الصناعة الوطنية إلى مستودعات لنفس المواد التي أصبحوا يستوردونها من الخارج بالعملة الصعبة الوطنية التي مصدرها الهيدروكاربونات.
لم يكتف الرئيس العبد العزيز بوتفليقة، وقتها، بهذا القرار، بل قرر إفساح المجال أمام البنوك وشركات التأمين ومكاتب الدراسات والخبرة الفرنسية للعودة للنشاط في الجزائر بالشكل والامتيازات ذاتها التي كانت تتمتع بها قبل قرار تأميمها نهاية ستينات القرن الماضي.
وإلى جانب ذلك تم بالاتفاق مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي انقاد شركات فرنسية كانت على وشك الافلاس ومنها مجموعة “ألستوم” التي حصلت على مشروعات بقيمة 3.2 مليار اورو في الجزائر، فيما حصلت مكاتب دراسات فرنسية على مشاريع ناهزت 5 مليار دولار سنويا بداية من 2006، في الوقت الذي قفزت فيه فاتورة الدواء السنوية من 280 مليون دولار عام 2003 إلى 1.8 مليار دولار عام 2018، مع هيمنة شبه مطلقة للمخابر الفرنسية المعروفة.
لم يتوقف العبث عند هذه الحدود، بل وصل إلى درجة أصبحت فيها بنوك فرنسية “مجهولة” تشرف على تسيير إحتياطات البلاد من النقد الأجنبي، ويتم إخفاء هذه الحقيقة الخطيرة على الشعب، كما قفزت واردات الجزائر الزراعية إلى 8 مليار دولار سنويا أغلبها من فرنسا.
لقد بلغت واردات القمح 10 ملايين طن سنويا، وهو ما يفوق حاجة البلاد بمرتين (باحتساب الإنتاج المحلي) لكنا لا نعرف إلى أين يذهب هذا القمح؟
الأدهى والأمر أن تقوم الحكومة سنة 2009 بصفة طوعية تسليم البطاقة الجينية للشعب الجزائري كاملة للمخابرات الفرنسية بحجة استصدار بطاقة الشفاء وجواز السفر وبطاقة التعريف البيومتريين، وحتى تكتمل الصورة جيدا تم منح صفقة تسيير مياه الجزائر العاصمة لشركة “سيال” الفرنسية ونفس الشيء لميترو وترامواي العاصمة الجزائر وبعدها التعاقد مع شركة مطارات باريس لتسير مطار الجزائر، هل بلغ العجز بالجزائر إلى هذا الحد وهي التي تعد ما يناهز 100 جامعة؟
فرنسا ومن خلال عملائها محليا سارعت أيضا إلى الهيمنة على قطاعات لا تقل استراتيجية ومنها قطاع الاسمنت وأصبحت شركة “لافارج” التي عادت عبر النافدة بصفقة الاستحواذ على الشركة الجزائرية للاسمنت فرع مجموعة اوراسكوم، وأصبحت “لافارج” تراقب 57 بالمائة من إنتاج الاسمنت في البلاد.
الجزائر وفرنسا :”رابح ـ رابح” أم شيء آخر؟
لقد بلغ العبث منتهاه خلال الـ 20 سنة الماضية لما تم فتح المجال لاستيراد 500 ألف سيارة في سنويا وتخزينها في العراء والهدف هو تهريب 7 مليار دولار إلى الخارج في ظروف مجهولة إلى اليوم، وكانت النتيجة انفاق 43 مليار دولار خلال 13 سنة على استيراد السيارات، لتصبح الجزائر بطلة العالم في نفخ العجلات.
في الفاتح من شهر أوت 2013، حصلت شركة “رينو” الفرنسية لصناعة السيارات على امتيازات “قياسية” من الحكومة الجزائرية مقابل إقامتها لوحدة محلية لتركيب 25 الف وحدة سنويا من نموذج واحد من سياراتها المنخفضة الثمن موجهة حصريا للسوق الجزائرية.
من وجهة نظر المختصين في صناعة السيارات، فإن قرار الحكومة الجزائرية هو خطأ فادح.
ووفقاً لنص الاتفاق تستفيد الشركة الفرنسية، من امتيازات جبائية وضريبية لمدة 10 سنوات بداية من تاريخ الشروع في الاستغلال، ويتضمن الإعفاء من دفع الضريبة على أرباح الشركات والرسم على النشاط المهني والإعفاء التام من جميع الرسوم والضرائب الأخرى وتخفيض سعر المساحة المخصصة لإقامة المشروع بنسبة 90 ٪، كما ووافقت الحكومة على التحويل الكامل والحر للأرباح من طرف الشركة.
التزم الصانع الفرنسي باستثمار مبلغ رمزي لم يتجاوز 50 مليون يورو وهو حد أدنى من استثمار إجمالي بقيمة مليار أورو. على الرغم من أن عقد الشركاء المبرم بين الطرفين يلزم الشركة الفرنسية بضخ استثمارات بقيمة 490 مليون يورو مقابل 510 ملايين يورو من الطرف الجزائري. وطرحت قيمة المشروع جملة من التساؤلات في باريس.
لقد عبرت الأسبوعية الاقتصادية الفرنسية “ليكسبونسيون” عن استغرابها لما وصفته بالامتيازات الغريبة التي حصلت عليها “رينو” في الجزائر، قبل أن تضيف أن الزمن وحده كفيل بكشف هل فعلا سيكون هذا الاتفاق “رابح ـ رابح” بين الجزائر وفرنسا، أم شيء آخر؟ وهو رأي الجريدة الاقتصادية “ليزيكو” التي تساءلت: كم كان مكلفا دخول “رينو” إلى الجزائر.
امتيازات تتعارض مع بنود اتفاق الشراكة
لقد استهجن الجميع موافقة الحكومة على منح الصانع الفرنسي امتيازا حصريا يتم بموجبه منع علامات أخرى من إقامة استثمارات محلية لمدة ثلاث سنوات من دخول مصنع رينو الجزائر مرحلة الإنتاج. وبررت الحكومة هذه الخطوة بمنح فرصة نمو للمصنع، لكن انتقادات للاتحاد الاوروبي أشارت إلى أن موضوع الحصرية يتنافى مع قواعد المنافسة النزيهة المنصوص عليها في المادة 41 من إتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الاوروبي الذي دخل حيز التنفيذ في مطلع سبتمبر 2005.
لقد كانت هذه القصص نماذج مصغرة عن الفساد الذي كان سائدا، وعن تسليم مقدرات الشعب الجزائري طواعية وعن طيب خاطر لفرنسا طيلة 20 عاما من حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ولهذه الأسباب كلها انتقلت فرنسا من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة ضد مؤسسة الجيش الوطني الشعبي وضد الرئيس عبد المجيد تبون.
فرنسا تعرف جيدا ماذا ستخسر في الجزائر بوصول قيادة وطنية إلى الحكم، لهذا فهي ستلعب كل الأوراق ومنها دعم المطالب الانفصالية لحركة استقلال منطقة القبائل (ماك) وورقة المنظمات الحقوقية لمحاصرة الجزائر خارجيا، وهذا من أجل السعي لابتزاز الجزائر الجديدة والتشويش عليها.
بقلم: عبد الخالق المحمدي