تنشر “أخبار دزاير ” نص كلمة رئيس المجلس الشعبي الوطني الدكتور سليمان شنين في افتتاح الدورة البرلمانية العادية.
بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وآله وصحبه إلى يوم الدين
السيد رئيس مجلس الأمة بالنيابة،
السيد الوزير الأول،
السيّدات والسادة الوزراء،
السادة أعضاء مكتب مجلس الأمة،
السيد رئيس المحكمة العليا،
السيدة رئيسة مجلس الدولة،
السيدات والسادة النواب،
السيدات والسادة أعضاء الأسرة الإعلامية،
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
إنّه لمن دواعي الشرف والاعتزاز أن أرحّب بجمعكم الموقّر في رحاب المجلس الشعبي الوطني، وأن أعرب لكم عن خالص الشكر وعميق الامتنان على مشاركتكم لنا مراسم افتتاح الدورة البرلمانية العادية 2019-2020.
اسمحوا لي، في البداية، أن أتوجه إليكم وإلى كل الشعب الجزائري والأمة الإسلامية بالتهاني الخالصة بمناسبة حلول السنة الهجرية، التي ندعو الله تعالى أن يكون عام خير وبركة وانفراج؛ عام سلم وأمن واستقرار؛ عام تكون الكلمة فيه للشعوب؛ وتكون فيه نهاية المآسي والمعاناة والأحادية والتسلّط، ونهاية الاستهتار بمقدّرات الأمة وثرواتها.
كما تجدر الإشارة إلى إحياء بلادنا منذ أيام لذكرى يوم المجاهد، هذه الذكرى المزدوجة لحدثين تاريخيين: هجومات الشمال القسنطيني 1955 ومؤتمر الصومام 1956، فكانت فرصة للوقوف على بطولات وتضحيات أسلافنا، وتذكيرنا في هذا الوقت بالذات بتاريخ ثورتنا وسلوكات شهدائنا في حب الوطن وإيثار مصلحته العليا والابتعاد عن الأنانية والحزبية الضيّقة.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل،
تمرّ بلادنا بمرحلة جدّ حساسة ومفصليّة في تاريخها، ميّزتها منذ أزيد من ستة أشهر هذه الهبة الشعبية المطالبة بالتغيير والتحوّل نحو نظام ديمقراطي حقيقي، واستعادة ثروتها وسيادتها. تحقّق من مطالب شعبنا الكثير وبقي الأهم، وهو مشاركة المواطن في بناء مؤسسات السلطة السياسية لبلاده بحرية، دون أن يتخوّف من آفة التحايل على صوته، وفق انتخابات حرّة وشفّافة ترمّم من هوّة انعدام الثقة؛ وتعيد الأمل في بناء الحاضر والمستقبل؛ وتعزّز معاني الانتماء للوطن، انتخابات تقضي على أزمة التمثيل السياسي وتعطي الشرعية الشعبية الكافية حتى نبدأ مرحلة جديدة أساسها سيادة الشعب وأولوية المواطن وانشغالاته وإرادته في الاختيار الحر.
إن الأزمة السياسية التي تعرفها بلادنا تجعل من الحوار اليوم أكثر من واجب وطني، والحل المتاح والممكن لأنه صمام أمان من كل أنواع المخاوف والمخاطر المحدقة ببلادنا، ومن القلق الذي ينتاب المواطنين تجاه حاضر بلادنا ومستقبلها.
إن الحوار قد أخذ أشكالا متنوعة من خلال المبادرات والفضاءات المنتشرة، والتي استطاعت أن تجمع بعض القوى والشخصيات والتنظيمات المختلفة، في انتظار أن تنتظم مع المسار الوطني بعيدا عن التشكيك والتخوين والشيطنة، وهذا هو أقصر الطرق وأقلها كلفة للشعب والدولة في الوقت الراهن.
ونضمّ أصواتنا إلى الداعمين لهيئة الحوار والوساطة التي استطاعت أن تتقدّم بخطوات مهمة في الاتجاه الصحيح، وما أحدثته من ديناميكية داخل المجتمع من أجل التعجيل بالحل السياسي المتمثل في تنظيم انتخابات رئاسية في أحسن الظروف؛ ولم يبق للمتقوّلين أيّ حجّة بعد فصل المؤسّسة العسكرية وترجيحها لتنظيم الانتخابات الرئاسية قبل نهاية السنة، وأثبتت للجميع في الداخل والخارج بذلك أنها مؤسّسة جمهورية كما عهدناها سليلة جيش التحرير الوطني؛ متشبّعة بقيم الوفاء والولاء للوطن ومصالحه العليا دون سواها، تلجأ للصندوق والإرادة الشعبية، ووفق بيئة سياسية وقانونية مساعدة من شأنها أن تعطي المصداقية الكافية للعملية الانتخابية القادمة، وتقلّل من المشكّكين وخاصّة المغرضين منهم.
إن الوقت اليوم يفرض على الجميع التوجّه السريع إلى الشرعية الشعبية، من خلال الانتخابات الرئاسية قبل نهاية السنة الحالية، ضمن منطق التوافق والتنازل من أجل مصلحة الوطن ووحدته وسيادة قراره، وهو أيضا الموقف الوطني المطلوب أمام ما تتعرض له إرادة بناء الجمهورية الجديدة وما تواجهه من حملات مبرمجة من أجل تعطيل وتأجيل تحقيق حلم الشهداء في بناء جمهورية جزائرية ديمقراطية شعبية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل،
إن المسيرات التي عرفتها بلادنا مشهد ديمقراطي، ومكسب مهمّ تنضاف إليه المرافقة في تأمينها من طرف القوات الأمنية التي نتوجه إليها بالاحترام والتقدير، مثمّنين تضحيات أفرادها والتزامهم بضبط النفس والاحترافية التي تجعلنا نتيقّن أننا قد خطونا أشواطا كبيرة نحو تكريس نظام ديمقراطي تعددي، إلّا أنّ هذه المسيرات التي تحمل رسائل يجب أن تحظى بالاهتمام والترجمة العملية على مستوى القرارات، والتي لا يمكنها أن تكون بديلا عن الانتخابات التي لها الحصرية في الحسم في التمثيل الشعبي وتفويض إرادته.
كما أغتنم هذه الفرصة لأعبّر عن تثميننا ودعمنا للصحافيين والمؤسسات الإعلامية التي تقوم بواجبها الوطني بمسؤولية واقتدار، وهي مدركة للمصلحة الوطنية في هذه المرحلة الحرجة التي تفرض الكثير من المهنية والموضوعية والتدقيق والتحري. كما أننا مطالبون جميعا بأن يُمنح قطاع الصحافة في بلادنا دعما أكبر وتحسينا أفضل لوضعيته وتنمية لمكتسباته. وتظلّ الإرادة الجماعية في تحسين وتطوير واقع الحرية الإعلامية مطلبا ومسعىً لكلّ الخيّرين في بلادنا.
إن الإرادة السياسية المرافقة لمطالب شعبنا، والمعلن عنها من كل المؤسسات الدستورية، وعبّر عنها رئيس الدولة مرّات عديدة وترجمت عمليا فيما تحقّق من مطالب شعبية، إضافة إلى الموقف التاريخي -النادر إقليميا وفي التجارب المختلفة للتحوّل الديمقراطي- للجيش الوطني الشعبي الذي التزم من خلال مواقفه التي عبّر عنها نائب وزير الدفاع الوطني وقائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح في عصمة دماء الجزائريين من جهة؛ ومن جهة أخرى مرافقة الشعب في تحقيق مطالبه بحكمة وواقعية ووفق رؤية تمسَّك بها منذ البداية؛ ومن خلال الدّعم المطلق في التوجّه الجاد والمسؤول في مكافحة الفساد والمرافقة الواضحة لمنظومة القضاء، التي تمكّنت من التحرّر في فترة زمنية قياسية واستطاعت أن تأخذ زمام المبادرة من خلال التغيّرات العميقة التي تُحدِثها في مختلف المؤسّسات القضائية والإدارية، ناهيك عن الملفات الكبيرة المفتوحة أمام القضاء والتي لم يتوقّع أحد منّا فتحها، هي كلّها معطيات تميّز المشهد الجزائري وتبعث فينا الفخر والاعتزاز.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل،
إن الحديث يطول ويتواصل عن إجراءات الطمأنة والتهدئة، ومن حق الجزائريين أن يساورهم القلق حول مستقبل الديمقراطية في دولتهم. وننتظر من كل شخص أو مؤسّسة تستطيع المساهمة في التخفيف من الاحتقان وتحقيق الاطمئنان السياسي أن تبادر بذلك، لأن المصلحة العليا للجزائر تستحق كلّ التنازلات والتضحيات.
كما أنّه من الإنصاف الوقوف على المكسب الإستراتيجي المتمثّل في استمرار استتباب الأمن عبر ربوع وطننا وحدوده، رغم كلّ المخاطر المحيطة بنا، والوقوف الحازم اتجاه التهديدات الحقيقية للأمن القومي؛ وإعادة ترتيب مؤسسات الدولة لوظائفها الأساسية والمتمثّلة في خدمة الأمّة والرقابة على ثرواتها والمحافظة على مكتسباتها بدل أن تكون أداة مساومة وخادمة لمصلحة مجموعات على حساب الشعب وخياراته. واستطاع جيشنا أن يحافظ على محورية دولتنا في الإقليم والمنطقة عموما، ممّا ساهم بشكل واضح في زيادة الاحترام الدولي للجزائر. وما زاد من هذا الاحترام والمكانة تلاحم الشعب مع الجيش، والمناعة المكتسبة ضد أيّ نوع من أنواع التدخل الأجنبي في شؤوننا الداخلية.
إننا ندرك أنّه في مثل هكذا محطات عانت شعوب كثيرة ولازالت من سياسات الإقصاء والإبعاد والعزل السياسي، فوفّرت ظروف استمرار الأزمة لعقود. وشعبنا اليوم واع ومدرك للرهانات التي تواجهه، مما سيزيدنا إصرارا على عدم استنساخ تجارب الآخرين في بناء الجمهورية الجديدة التي ستسعه فكرا وتستوعب طموحاته، وتلبي انشغالاته وتتكفل بمعالجة آلامه وتقلّل من معاناته.
وندرك أن أيّ شعب منقسم على نفسه ولا يملك الشجاعة على التسامح والمصالحة، يقامر بتعريض تجربته الديمقراطية للخطر. كما أن الاختلاف في الماضي لا يعني عدم الاتفاق على الحاضر والمستقبل، فنحن بأمس الحاجة إلى شعارات وهتافات جامعة غير مفرّقة؛ موحّدة للصفوف؛ متآخية متحابة، فلا وطن ولا أرض لنا غير الجزائر المحفوظة بدماء الشهداء وتضحيات المخلصين.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل،
إن الحذر المطلوب اليوم من الوضع الاقتصادي الذي يزيد في التأزيم بعد السياسات الفاشلة التي كانت معتمدة من قبل، والقائمة على الاحتكار واقتصاد الريع، والتي استفاد منها شلّة دون باقي المواطنين، ومن عقلية الانتظار وعدم المبادرة والتخوّف المبالغ فيه ممّا يجعلنا ندعو بهذه المناسبة إلى ضرورة مرافقة المؤسسات الاقتصادية في استمرار نشاطها، ومعالجة كل ما من شأنه تعطيلها بحلول اقتصادية لا إدارية فقط تُحقّق المنفعة للجميع وتراعي القدرات التنافسية وتقلّل من التداعيات والارتدادات الاجتماعية والمالية من جراء توقّف نشاط هذه المؤسّسات.
كما أننا مطالبون جميعا بمراعاة الوضع الاجتماعي الصعب الذي تمرّ به بلادنا أمام تراجع القدرة الشرائية، وتراجع بعض المؤشّرات الاقتصادية. وهنا نلفت الانتباه إلى أهمية أن يكون قانون المالية القادم خال من أي نوع من الزيادات التي تمسّ عموم المواطنين، دون الإخلال بالتوازنات الكبرى للدولة، وأن تُتّخذ إجراءات دعم وتضامن مباشرة اتجاه الفئات المعوزة حتى تتمكن من تلبية حاجياتها الأساسية في هذا الدخول الاجتماعي بشكل يضمن كرامتها ويبعدها عن أي نوع من الإذلال.
ومن غير المقبول أن تتكرّر مشاكل اعتقدنا أنها نالت نصيبها من الحلّ، على غرار انقطاع المياه والكهرباء وتدنّي الخدمات الصحية وغيرها من المشاكل التي تعكّر صفو حياة المواطنين، في الوقت الذي نتطلع إلى أن يكون الدخول الاجتماعي موفّقا وعام نجاح بمشيئة الله تعالى وسنة حوار شفّاف ومسؤول وملتزم بين الشركاء الاجتماعيين بعيدا عن ممارسات الماضي القريب التي أورثتنا هذا الواقع السلبي.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل،
إننا إذ نفتتح هذه الدورة البرلمانية الجديدة، سنعمل خلالها على أن تقوم هيئتنا التشريعية بأداء مهامها الدستورية متّخذين من أولويات المواطن وانشغالاته محور اهتمامنا وعملنا.
ونعبّر عن الاستعداد الكامل لدراسة نصوص القوانين التي ستنصبّ حول مقتضيات المرحلة التي تمرّ بها بلادنا، وما يمكنه أن يساهم في إخراج البلاد من أزمتها من خلال مخرجات الحوار، لنتمكّن من تقديم الضمانات القانونية الكافية لعملية انتخابية حرّة وشفّافة، التزاما منا مع شعبنا وتجاوبا مع مطالب مسيراته المتكرّرة بعيدا عن رؤانا الحزبية، لأننا في لحظة يجب أن يكون فيها حزبنا هو الجزائر دون سواها، زيادة على دراسة مختلف النصوص القانونية الأخرى التي ستحال على مجلسنا.
كما سيضطلع المجلس بمهمة الرقابة ومتابعة العمل الحكومي ومساءلة الحكومة حول القضايا التي تهمّ المواطن والشأن الوطني بعمومه، من خلال آلية الأسئلة الشفوية والكتابية طبقا لأحكام الدستور. ونفس الروح والاستعداد سيسودان أشغال اللجان الدائمة، سواء لمناقشة ودراسة النصوص القانونية أو لتنظيم البعثات الاستعلامية قصد الاطّلاع على مشاكل المواطنين والنقائص التي تواجههم في مختلف القطاعات، أو من خلال الأيام البرلمانية ذات الصلة بمجالات اختصاصات كل لجنة دائمة.
وستنال الدبلوماسية البرلمانية نصيبها من العناية بما يتماشى مع المواقف المشرّفة لبلادنا، وما يمكنه المساهمة في دور الجزائر المحوري والأساس خاصة في هذه المرحلة المفصلية التي نمرّ بها.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل،
نجدّد من هذا المنبر موقفنا الثابت في دعم القضية الفلسطينية، ورفض كلّ حملات التهويد للمسجد الأقصى، وسياسات بعض الدول في نقل سفاراتها لدى المحتلّ الإسرائيلي إلى القدس، ورفض كلّ محاولات الاعتداء على سيادة بعض الدّول المجاورة لفلسطين. ونجدّد دعمنا للشعب الفلسطيني المناضل والمقاوم، ولكلّ المرابطين في هذه الأراضي المقدّسة.
كما نجدّد وقوفنا إلى جنب الشّعب الصحراوي في نضاله المستمرّ من أجل نيل حقّه في تقرير المصير، ودعوتنا للتّعجيل في المساعي الأمميّة وفق القرارات الدولية التي يمكنها المساهمة في إنهاء مآسي الشعب الصحراوي المناضل.
ولا يفوتنا، في هذه المناسبة، أن نؤكّد مرّة أخرى مساندتنا للمقاربة الأمميّة لتسوية أزمة الشعب الليبي، وتجميع الأشقاء الليبييّن في حوار جامع، ووضع حدّ لنزيف الدم الليبي وتمكين الشعب الليبي من حقّه في بناء دولته وتجسيد الديمقراطية التي حلم بها وسالت من أجلها دماء كثيرة.
ومن جهة أخرى، نشيد بالدور الذي تلعبه الجزائر في تحقيق المصالحة بين الفرقاء الماليين، وجهودها المبذولة في سياق متابعة تجسيد مخرجات اتفاق السلم والمصالحة المنبثقة عن مسار الجزائر ومرافقة جهود الخروج من الأزمة التي يعيشها هذا البلد الشقيق، وكذا تثمين المساهمة الأمميّة في تعزيز الأمن والاستقرار في هذا البلد.
أيتها السيدات الفضليات،
أيها السادة الأفاضل،
رغم كل ما يقال، ورغم ما تعرفه بلادنا، إلّا أن مساحة الأمل الواعد أوسع وأكبر من القلق واليأس، وشجرة النظرة السوداوية لا يمكنها أن تغطّي غابة ما تملكه الجزائر من شعب واع محبّ لوطنه وشباب يتّقد أملا في تحقيق ما يجعل بلده من الدول الرائدة في كل المجالات. وقد بدأ هذا المشروع الوطني الكبير يتحقّق على أرض الواقع، وإننا على يقين بأنّه لن يتوقّف مهما كانت العوائق والمطبّات.
أجدّد لكم تمنّياتي الخالصة بعام سعيد وكل عام والجزائر بخير، موحّدة رائدة وفيّة لقيم ثورتها المجيدة؛ سيدة في قرارها ومنبع للخير والعطاء.
عاشت الجزائر
المجد والخلود لشهدائنا الابرار