بالعودة قليلا الى الوراء والغوص في العلاقات الجزائرية الفرنسية والتى كانت تتسم من الجانب الجزائري بمراعاة مصالح البلدين والالتزام بالأخلاق والأعراف الديبلوماسية، ومن الجانب الفرنسي بالمكر والمذيعة نجد أن أولى المعاهدات المنعقدة بينهما والتى قاربت 70معاهدة إلى غاية احتلال الجزائر كانت معاهدة حاكم بجاية خالد بن زكرياء ومجلس حكومة مرسيليا أواخر 12عشر مرورا بمعاهدة خير الدين وفرنسو الأول ملك فرنسا سنة 1534، معاهدة حسن باشا ولويس الثالث عشر سنة 1619( معاهدة تور ) وبعدها معاهدة سنة 1764 بين الداي بابا علي ولويس الخامس عشر.. ويطول ذكر المعاهدات المنعقدة بين دولة الجزائر وفرنسا آنذاك والاتفاقيات و المراسلات التى كانت بينهما إلى درجة أن لويس 16 كان يطلع حاكم الحزائر بكل ما يدور في بلاطه ( انظر شخصية الجزائر الدولية لمولود قاسم)….
وبدوره المجلس التنفيذي المؤقت للجمهورية الفرنسية (1793)أرسل إلى داي الحزائر يعلمه بالتغيرات الحاصلة في فرنسا، وتعترف دولة الجزائر بالجمهورية الفرنسية بتاريخ 20 ماي 1793 وهذا يحيلنا الى الدعم الدبلوماسي الذي قدمته الجزائر للحكومة الفرنسية الفتية التى كانت محاصرة من الأنظمة الملكية الأوربية ووقوف الجزائر العلني معها وفك العزلة السياسية عنها ودعمها اقتصاديا وعسكريا، حيث أقرض الداي حسن الجمهورية الفرنسية لشراء القمح من الجزائر زيادة على المساعدات التى تمثلت في الحبوب والجلود والمواد الاستهلاكية المختلفة والخيول، وسيذكرالتاريخ رسالة قادة الجمهورية للداي حسن ( إن الجمهورية لسوف تتذكر دوما هذه المساعدات التى تلقتها من أصدقائها وحلفائها في هذه الظروف العصيبة)…. وخلدها مفدي زكرياء في إلياذته :
وجاعت فرنسا فكنا كراما – وكنا الألي يطعمون الطعاما
فأبطرهم قمحنا الذهبي – وكم تبطر الصدقات اللئاما
وتدور الدوائر وتتحالف قوى الغرب على الجزائر ويكون الجزاء احتلالا قاسيا مدمرا أهلك الحرث والنسل مستهدفا في المقام الأول شخصية الحزائر وهويتها مركزا على لغتها ودينها وبعث الشقاق وتهييج النعرات وخلق فتنة عرقية تفريقا بين ابناء الوطن الواحد (بربر وعرب).
فكانت بداية المخطط الجهنمي الذي رعاه الأباء البيض ونفذه جنرالاتها بالحديد والنار دون رحمة ولا هوادة طيلة 130سنة ، فكانت المجازر والتهجير وتفقير عموم الشعب وسياسة التجهيل ومحاربة الدين الإسلامي بكل مظاهره بداية بحرق وتخريب المساجد والزوايا والاستلام على الأوقاف ومحاربة اللغة العربية ومنعها من التداول في شتى مناحي الحياة، وفرض اللغة الفرنسية وصولا الى تكوين طابور خامس منسلخ عن مقومات هويته من بعض ابناء الوجهاء والأمازيغ ضمن استراتيجية محكمة اشرف عليها الآباء البيض تحت غطاء التنوير والحضارة …
ومالبث الشعب الأبي أن تفطن لهذه المكائد وما يحيكه الاستعمار، فكانت ثوراته مستمرة ما إن تنطفئ واحدة حتى تشتعل أخرى في كل ربوع الوطن، وكان للزوايا دورها في الحفاظ على لغة ودين هذا الشعب وظلت زوايا منطقة القبائل منارا ت صامدة في وجه حملة التجهيل والتنصير والسلخ الشرسة.
وقيّض الله لهذه الأمة بعدها حركة اصلاحية استكملت المهمة إلى أن استوى واستقام عود شبابها وقام بثورته المظفرة الذي لخص بيان أول نوفمبر مرتكزاتها وأهدافها دولة جزائرية ديمقراطية شعبية في إطار المبادئ الإسلامية .
وأدركت فرنسا أن استقلال الجزائر لا جدال فيه وكانت تعد العدة لهذا اليوم من خلال طابورها وعملائها ورعايتهم ليكونوا رعاة مصالحها فيما بعد وكان ديغول قد صرح في ديسمبر 1960( الجزائر الجديدة هي جزائر جزائرية متكونة من طائفتين طائفة أولى وهي الأغلبية وطائفة ثانية وهي ضرورية للجزائر مثل الخميرة للعجين وهذه الجزائر تظل مرتبطة بفرنسا)، وكان تكتيكه الانسحاب بشرف واقتدار وأن تظل الجزائر فرنسية في جوهرها ملمحا إلى اللغة والثقافة ….
بعد الاستقلال ظلت العلاقات بين الدولتين يسودها التوجس وتلقي سنين الاستعمار الطويلة بضلالها وبدات الجزائر تخطو خطواتها الأولى نحو الانعتاق من الهيمنة الاستعمارية وتوجهها شرقا وتمتين روابطها بعمقها العربي الأفريقي، وكانت فرنسا وعيونها بالداخل تلتقط كل شاردة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية بالجزائر التى كانت تسير رويدا رويدا نحو بناء وإرساء معالم الدولة الجزائرية المتمسكة بقيمها الروحية ولغتها المتفتحة على العالم في إطار الأصالة والآنية وبدأ اقتصادها في التحرك وزراعتها في التعافي، وما رافق ذلك من من ثورة في مجال التعليم المجاني والصحة والزخم الثقافي الذي تجلى في شتى المجالات الثقافية وصولا إلى أمرية 1976 ومعركة التعريب التى استفزت فرنسا وتحرك طابورها الخامس للحيلولة دون بلوغ الأمر مداه لعلمها وإدراكها أنها إذا خسرت معركة اللغة في الجزائر ستخسر التحكم في مفاصل الدولة من خلاله مصالحها في الجزائر التى هي بوابة أفريقيا وكبرى الدول المغاربية …
ويستمر الصراع اللغوي مع تبني الجزائر للمدرسة الأساسية وما شهدناه وعشناه في تلك المرحلة من تجاذبات وتدخلات سافرة من طرف فرنسا، ولم يهدأ لها بال حتى قوضت أسس المدرسة الأساسية وكانت بالمرصاد ووراء إفشال كل قوانين استعمال وتعميم اللغة العربية من قانون 1991إلى غيره من القوانين الأخرى التى جمدت تحت ظغط اللوبي الفرنسي وفرنسا الرسمية ذاتها.
ومع بداية الألفينيات استطاعت فرنسا أن تفرض سيطرتها على المنظومة التربوية ومن خلالها سيادة اللغة الفرنسية في شتى المجالات، فأصبحت لغة تخاطب مسؤولي الدولة ولغة الإدارة والوظيف بلا منازع، وهمشت للغة الرسمية تحت وطأة التنازلات أبداها مسؤولو تلك المرحلة لأغراض وترتيبات تخدم مصالحهم وترهن مصالح وطن وشعب بأكمله.
وبعد أن بلغ الإحتقان أشده بسبب ممارسات وخيارات خاطئة أدت إلى تغول الفساد الذي كان يصب في مجمله في مصلحة فرنسا ( 10مليار دولاركل سنة ) وسيطرتها على التجارة الخارجية وموارد البلاد من خلال عملائها وانسداد الأفق انفجر الشارع بحراك مبارك لاسترجاع زمام الأمور وإعادتها إلى نصابها الطبيعي والذي لم يسلم من محاولات الاختراق والدسائس التى كانت فرنسا من ورائها بتحريك عملائها الذين كانو يحجون فرادى وجماعات إلى باريس ، وقيض الله للحزائر مرة أخرى رجالا شرفاء كانوا سدا منيعا في وجه تنفيذ تلك المخططات الدنيئه التى كانت تريد استمرار الفساد في عهدة خامسة مشؤومة
وتوالى قطف رؤوس الفساد وانكشف المخطط ومعه لعبة فرنسا وبيادقها.. وأمام إصرار والتحام الشعب وجيشه الذي فوت الفرصة على المتربصين وعملاء فرنسا واختياره للطريق الأسلم والأنجع للخروج من تلك الدوامة وانخرط في انتخابات رئاسية أفضت إلى انتخاب رئيس جديد تتويجا لمسار حراك سلمي أبهر العالم في وقت كانت فرنسا غارقة في مستنقع السترات الصفراء.
كانت بداية عهد جديد من خلال الانخراط في ترتيب الأوضاع التى عاثت فيها العصابة فسادا وتخريبا والسير في طريق استلهام تجارب الدول الناجحة ومحاولة تنويع مصادر الاقتصاد الوطني وتنويع الشركاء على أسس اقتصادية ناجعة والتوجه إلى قطاعات أهملت عمدا لغرض التبعية للضفة الأخرى، ومباشرة إصلاحات في كل الاتجاهات بخطوات مدروسة لإرجاع الثقة للمواطن في دولته ومسؤوليه من خلال التكفل الجاد بانشغالاته اليومية وإشراك فعاليات المجتمع المدني في التسيير المحلي وبداية مراجعة المنظومة التربوية المنكوبة، وإعطاء الأولوية لتحسين الإطار المعيشي للمواطن في حدود إمكانات البلاد .
كل هذا جعل الضفة الأخرى وعملاءها في حالة استنفار غير مسبوق والخوف من التوجهات الاقتصادية الجديدة ومشروع المجتمع الذي يريده الرئيس مباشرته بمراجعة الدستور وفتح نقاش وطني جاد مركزا على استعادة مقومات الهوية وإعطائها البعد اللائق بها كدولة تحترم نفسها.
المتتبع للأحداث يدرك جيدا دون عناء أن هذا التوجه لا يرضخ بأي حال من الأحوال للضغوط والمساومات وأن عهد تفتيش وإهانة رموز الدولة في مطارات باريس قد ولى دون رجعة وعلى باريس أن تعي وتستوعب التغيرات الحاصلة حاليا في الجزائر، وما تعامل الحزائر مع استفزازاتها المتكررة و استدعاء سفير الجزائر لأول مرة خير دليل على توجه جديد نأمل أن يبقى في مستوى الندية في التعامل بين الدول في إطار الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
فقد حان الوقت أن نبني جزائر حلم بها الشهداء وضحى من أجلها الملايين .. جزائر معتزة بماضيها التليد متفتحة على العالم بأسره مصلحتها فوق كل اعتبار جزائر عربية امازيغية الإسلام دينها والعربية لغتها .
بقلم الكاتب : سعيد عياشي