الأسلوب الذي كان الرئيس هواري بو مدين يدربني به على الاستجابة لمتطلبات منصبي كان أسلوبا فريدا ورقيقا، وهو ما يذكرني باللقاء الذي جمعه بشباب الخدمة الوطنية في إطار إنشاء طريق الوحدة الإفريقية بداية السبعينيات.
يومها ألقى الرئيس بومدين في “المنيعة” خطابا ظلت ذكراه محفورة في وجداني، لأنه كان تدريبا لي على ملاحقة أفكار الرئيس والحرص على تنفيذها، بدون تعليمات خطية مفصلة.
فخلال الخطاب الذي حيا فيه الرئيس الشباب واستعرض أهداف الطريق الصحراوي أعلن عن الانطلاق الرسمي للأشغال التي ستتجه نحو مدينة تمنراست (ألفي كيلومترا، جنوبي العاصمة) عبر مدينة عين صالح، ولكل من المدينتين ذكرى خاصة بها.
فقد كانت مدينة عين صالح بالنسبة لي شخصيا أملا يرتجى عندما التحقت بجيش التحرير الوطني في 1957، وكنت جزءا من الحملة الجزائرية التي كلفت بفتح جهة جديدة في الصحراء، وكان علينا، بعد اجتياز الحدود الجزائرية الليبية، أن نتجه شمالا نحو عين صالح، والتي عرفناها دائما بهذا الاسم، وكان المفروض أن يفهم القوم، قبل أن يفرض العناد رأيه، أن الصواب المهجور، إن كان فعلا صوابا، ليس خيرا من الخطأ الشائع، خصوصا إذا لم يكن فيه ما يُعاب.
والمهم أن اسم عين صالح، هكذا، أصبح جزءا من حياتي.
أما مدينة تمنراست، فقد كان اسمها جزءا من الشعار الذي رفعه الجنرال دوغول خلال الحرب العالمية الثانية، للدلالة على وحدة مصير الجزائر مع فرنسا (وكانت فرنسا آنذاك تحت السيطرة الألمانية والجزائر تحت سلطة حكومة فيشي المتعاطفة مع برلين).
وهكذا أطلق دوغول شعار “من دانكرك إلى تمنراست”.
وعندما كان الرئيس بومدين في سبتمبر 1971 يخاطب شباب الخدمة الوطنية ركز بصره عليّ لثوان وهو يواصل خطابه قائلا: “إلى الأمام أيها الإخوة.. إلى الأمام نحو تمنراست”، ثم استكمل خطابه كالمعتاد.
وبعد انتهاء الخطاب رحت أتابع المهام التي كان علي أن أقوم بها عندما جاءني واحد من رجال التشريفات مسرعا ليقول لي بأن الرئيس يستدعيني على جناح السرعة (وقد ألفت فيما أن يستدعيني الرئيس بعد إتمامه لخطبه، وهكذا كنت أحرص على أن أظل في متناول بصره، حتى لا يضيع وقت طويل في البحث عني)..
واتجهت إلى مقر إقامة الرئيس (وكانت دائما مقر السلطة المحلية في موقع الزيارة، أي مقرّ الولاية أو الدائرة، ولم يكن يقطن أبدا، خلال زيارته الميدانية لمختلف نواحي الوطن، في أي قاعدة عسكرية)..
وعاجلني الرئيس بالسؤال، ودائما كالعادة، بشكل يبدو عفويا: “كيف ترى عناوين الصحافة غدا”، وأجبت بسرعة: “العنوان الرئيسي سيكون: إلى الأمام نحو تامنراست”.
ورأيت أسارير الرئيس قد جسدت حجما كبيرا من الارتياح، وفهمت الدرس.
وهكذا عليّ في المستقبل، وبجانب التنسيق مع مديري الصحف بالنسبة للتعليقات على الأحداث الهامة التي يكون الرئيس محورها، تصوّرُ العنوان أو العناوين الرئيسية للصفحة الأولى، وخاصة بالنسبة لصحفية الشعب الصادرة بالعربية (والتي حاولت أحيانا أن أخصها ببعض السبق) وكان هذا أيضا مما أثار حساسيات كثيرة على بعض مستويات المسؤولية الإعلامية، لكن ذلك، للأمانة، لم يتعد حدود التعليقات الحادة في بعض الجلسات أو التعبيرات الساخطة لبعض المسؤولين، وكلها كانت تقال بعيدا عن مسامعي، على الأقل بشكل مباشر، لكن درس “المنيعة” جعلني فيما بعد أختار مكانا ثابتا للجلوس، وهكذا ألف الرئيس وجودي دائما إلى يساره، على يمين الصف الأول في أي مكان يلقي به خطبه، وخاصة في قاعة قصر الأمم بنادي الصنوبر.
والتقط الرئيس الرسالة وراح يوجهني بنفس الأسلوب خلال خطبه كأن يقول مثلا، وهو يستعرض قضية معينة في لقائه مع إطارات الأمة:
“ولقد أردت أن أضعكم في الصورة كمناضلين”…
وعندما يركز بصره عليّ، أفهم أن القضية المعنية هي فقط لعلم الموجودين في القاعة”، وتُحذف من النصوص الرسمية للخطب، المرئية والمسموعة والمكتوبة.
وعلى العكس من ذلك، عندما كان يقول، وهو يركز بصره عليّ لثوان، وبسرعة قد لا يلحظُها أحد…
“وهذه القضية يجب أن تكون واضحة للجميع”… أو ما يشبه ذلك
وهنا يجب أن تكون القضية موضع تعليقات الصحف، بالدرجة التي تتطلبها أهميتها.
أما في اللقاءات المضيقة فكان عليّ أن أكون وراءه لأتابع وأسجل وأتلقى الملاحظات، وهو ما يختلف عن اللقاءات الشعبية حيث يجب أن أكون في مرمى البصر.
وسنتعلم جميعا مع الرئيس لغة العيون.
المصدر : مقال بقلم الدكتور محي الدين عميمور على حسابه الشخصي